نظم بعض المتصوفة الأبيات التالية، للتعبير عن نظرية طاعة (المريد) المطلقة (للشيخ) التي تمثل إحدى ركائز الفكر الصوفي، فقال: وكن عنده كالميْت عند مغسل يقلبه ما شاء وهو مطاوع ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن الاعتراض تنازع وسلم له فيما تراه ولو يكن على غير مشروع فثم مخادع وفي قصة الخضر الكريم كفاية لقتل الغلام والكليم يدافع فالنظرية تقوم على بما يشبه عقدًا يبرمه (المريد) مع (الشيخ) على أن يطيع الأول الأخير فيما يأمره به دونما اعتراض، حتى وإن كان ظاهر أمر الشيخ مخالفًا للشرع والعقل، ومتى ما خالف المريد شيئا من ذلك، انفسخ العقد، بل كان المريد معرِضًا نفسه لعذاب الله وغضبه. يقول صاحب (طبقات الخواص)، حاكيا عن الشيخ أبي الحسن علي الأهدل: (قال لي سيدي- يعني ربه عز وجل- من خالف كلامك أحرقته بناري)! ثم يحكي عنه: أنه كان إذا أراد أن يأمر أتباعه بشيء لم يكن يقول: (آمركم بكذا)، بل كان يقول: (أريد كذا)، ويقول: (أخاف عليهم النار إن خالفوني)! ثَمّ ركن آخر في التصور الصوفي، لا يقل عما حكينا مصادمةً للعقل وللشرع، وهو وجوب اقتصار المريد على شيخ واحد، يطيعه في كل ما يأمر به دون غيره، عبّر عن ذلك صاحب (رماح حزب الرحيم) بقوله: (واعلم أن الاقتصار على واحدٍ لا يتعداه إلى غيره شرط لازم في طريق أهل الله ، ولابد لكل مريد من التزامه وإلاّ فلا سبيل له في الوصول البتة). هذه هي مقومات مفهوم (الطاعة) عند الصوفية، ومعاذ الله أن نعمم فنظلم أهل العقل والديانة من المنتسبين إليهم، ولكن ما ذكرت لك لا ينكره حتى عقلاؤهم، وإن كنا نحسبهم لا يرتضونه فضلا عن أن يتورطوا في ممارسته أو فرضه على الناس. وعلى الرغم من المخالفة الصارخة لأبسط بدهيات العقل، والتجسّد الواضح لأحط دركات مصادرة الإرادة وقمع الحرية الفردية، وهذا القهر المعنوي الذي تقدمه لنا هذه الأيديولوجية، إلا أننا وجدنا أفئدة من الليبراليين –دعاة التحرر وحماة العقلانية- تهوي إلى هذه الطائفة، يسارعون فيهم يخطبون ودهم، يعقدون الأحلاف ويشكلون الجبهات، على الرغم من التنافر الصارخ بين النظريتين! أمر يثير الدهشة ويستدعي العجب، إلا أنه مقبول –من حيث الأصل- في عالم السياسة، فلا تثريب. ولكنك إن رمت الغوص أكثر، لظهر لك –كالعادة- ما لم يظهر لك بادي الرأي، ولوجدت أن هذا التحالف ليس إلا (نسخة الأسبوع) من سلسلة ممارسات زملائنا الليبراليين، تلك التي ترتسم على محيّاها المشروعية، بينما تحمل في أحشائها نقض الأصل الذي قامت عليه دعوتهم، بحيث تجد نفسك في النهاية أمام مخالفة جماعية تواطأ عليها الليبراليون عن بكرة أبيهم، أقاموا أركانها بين عشية وضحاها، تتصاغر أمامها عشرات بل مئات المخالفات الفردية لخصومهم، وبيان ذلك: أن لنا أن نسأل سؤالًا مشروعًا، وهو: كيف يفيد كل من الطرفين (الليبرالي والصوفي) من الآخر؟ نحن قد خبرنا جميع رموز التيار الليبرالي تقريبا، لكننا لا نعرف كثيرا عن إخواننا قيادات التيار الصوفي في مصر، وبخاصة، ذاك الشيخ الذي تولى كبر هذا التحالف، وفتح باب طريقته الصوفية على مصراعيه لجماعات الليبرالية، وأكرم ضيافتهم وأنزلهم خير منزل. تصريحات الرجل –لا سيما الأخيرة منها- مبثوثة مسجلة بالصوت والصورة، ما أن تشاهد بضع دقائق منها إلا ويظهر لك أنه يملك خاصيتين يسيل لهما لعاب من يبغي إقصاء الإسلاميين من على ظهر البسيطة، أولاهما: أنه لا يكاد يقيم جملتين مفيدتين متتاليتين إذا ما سئل عن السياسة! تصوره عن تحديات المرحلة وعن اللعبة السياسية برمتها لا تعدو كونه يرى الحزب وسيلة لإصلاح أخلاق المصريين! لا يطمع في سلطة، ولو طمع لتعرّف بالكاد –بعد طول عناء- على أقصر طريق يوصله إلى مقر حزبه السياسي. أما ثاني الميزتين، والتي فارق بها كثيرًا من رموز الصوفية الذين رفضوا الانضمام إلى هذا الحلف: فهي عداؤه الشديد لجناحي التيار الإسلامي –الإخوان والسلفيين-، وخوفه الذي يملأ قلبه من وصولهما إلى سدة الحكم! فالإخوان عنده (طالبو سلطة) - كما يحلو لقليلي التقوى نبزهم دائما-، والسلفيون عنده ممولون من الخليج، كارهون لآل البيت، يخشى وصولهم إلى الحكم، لأنه قد استمع في إحدى جلساتهم الخاصة لأحدهم –تأمل!- يتوعد الصوفية "بالذبح" –كذا قال بالنص!- إذا ما وصلوا إلى سدة الحكم. تأمل ما سبق واسأل نفسك واسأل زميلك الليبرالي: رجل عديم الخبرة بالسياسة، لا ينخرط في دنيا الناس إلا من خلال إقامة الموالد والحضرات الصوفية! يبني رؤاه للظروف الراهنة على ما يأتيه في المنامات، وهو في ذات الوقت شديد العداء للتيار الإسلامي، فماذا يرجو منه زميلنا الليبرالي؟! سؤال مشروع آخر، وهو: متى ظهرت هذه الدعوة إلى التحالف؟ والجواب، أن إرهاصات التحالف بدأت في الظهور مع مطلع فجر يوم 29 يوليو، ذاك اليوم الذي كان -على ما فيه- بمثابة قارعة نزلت من السماء على رؤوس أصحابنا، فأخذتهم على تخوف، ولعلك تلحظ بعدها أن مقالات القوم وندواتهم وأحاديثهم الصحفية أضحت تعج بمفردات جديدة لم نألفها من قبل وبهذه الغزارة، من قبيل (الصراع) و(التكتلات) و(الجبهات) و(المواجهة للمد الإسلامي) و(صمتكم يقتلنا)، وتلاشت تماما مفردات (التوافق) و(التسامح) التي أكثر زملاؤنا الكرام من الدندنة حولها وقت الرخاء، وعكف القوم على انتقاد واستنكار كل نَفَس خرج من جوف (سلفي) أو (إخواني) في ذلك اليوم.. فهل هو إذًا تحالف (ليبراصوفي) لتقويض السلفيين والإخوان، والتصدي لزحفهم نحو كرسي الحكم ومقاعد البرلمان؟ والجواب: نعم، ولا ينبغي أن يخطر على بالك خلاف ذلك أصلا، ولكن مرة أخرى، فليس هذا محل الإنكار الأكبر، وسوف نجوّز هذه النقطة إلى ما بعدها، مع أننا لا نعلم تحالفًا قام على إسقاط فريق أو خصم إلا ذاك التحالف المبارك الذي أسقط المخلوع، أما عصر ما بعد الثورة، فالمفترض أن تخرج لنا تحالفات قوامها البناء لا الهدم، وعمادها التوافق لا الإقصاء، ولكن –فضلا- غض طرفك، وامش معي ولا تلتفت، فليس هذا مبلغ زملائنا من التناقض.. سؤال ثالث..لو اجتمع رأس الليبراليين مع رأس الصوفية على مطلب مشترك –كالتصدي للسلفيين والإخوان مثلا- واتفقا على أن يحشد كل منهما ما يستطيع أن يحشده من بني جلدته، فكم ستكون نسبة الليبراليين، وكم ستكون نسبة الصوفية؟ الجواب واضح لكل ذي عينين، فخبر أعداد الصوفية الذين يحضرون الموالد الكبرى ليس بغائب عن أحد، يقدّر أحيانا بالملايين، أما الليبراليون والعلمانيون ومن أخذ على عاتقه مواجهة مشروع الإسلام السياسي، فقد أثارت محاولاتهم للحشد شفقة أصحاب القلوب الرحيمة كما هو معلوم. إذًا، فالليبرالي مستفيد من حشد الشيخ الصوفي لمريديه، والشيخ الصوفي يستفيد بتصدي هذا الرمز الليبرالي لألد خصومه: الوهابية الأشرار والإخوان طالبي السلطة! وإذ تقرر استفادة الليبرالي من الحشد الصوفي، فالسؤال الرابع والأخير والقاصم: كيف سيحشد الشيخ الصوفي مريديه لنصرة المرشح الليبرالي؟ هل سيخاطب عقولهم ويؤصل وينظّر للتحديات السياسية ويعرض عليهم جوانب المشهد؟ أم هي نظرية (كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله)؟ إنه الخيار الثاني بلا ريب، فقد علمت أنه الركن الركين في العلاقة بين المريد وبين الشيخ في الفكر الصوفي، فليس ثمّ إلا الطاعة العمياء، والتسليم المطلق، والإذعان والانقياد! عقل المريد مغيب ولسانه معقود وقلبه مأسور بحب الشيخ.. فهل هذا حشد باسم الدين أم ماذا؟! لعلكم تذكرون كيف استنكر أصحابنا قول أحد المشايخ يوم الاستفتاء: (التصويت بنعم واجب شرعي)؟ أما الآن، فنحن أمام: (إما التصويت لفلان...وإما نار الله الموقدة)! فصارت الآن بين أيدينا هذه المنظومة العجيبة وهذا المشهد الذي لم يكن ليخطر على بال: مولد صوفي يرقص فيه آلاف المريدون ويطربون، ومنصة في وسط الساحة قد ارتقاها الشيخ الصوفي واضعا يده في يد المرشح الليبرالي، ليعلنها على مرأى ومسمع الجميع (شيخكم يريد هذا الرجل، وإني أخاف عليكم النار إن خالفتموني)! وينفض المولد من لحظتها، ويهرع مئات الآلاف إلى صناديق الانتخابات، ينتظر الواحد منهم ذاك اليوم الذي يرضون فيه ربهم ويزحزحون فيه عن ناره. آل الأمر في النهاية، إلى أن ملايين الصوفية قد ارتموا على الأرض أمام الليبرالي كالميت بين يدي مغسله، يوجههم كيف يشاء، ويصرفهم متى ما شاء، وكله (باسم الدين)! وبخطاب (الجنة والنار)! وهكذا السياسة عند القوم، تتبدل الشعارات وتتحول المبادئ عشية كل جمعة. وهكذا يكون الرد على الإسلاميين المخادعين، مستغلي الدين في السياسة. وهكذا تكون الليبرالية، التي (تنظّم العلاقة بين الدين والسياسة)، على حد تعبير منظّر القوم الأول ومتحدثهم الأوحد. بالله! ألا تشفق عليهم، وهم في سلسلة متواصلة من المحاولات اليائسة لانتشال المشروع الليبرالي من الغرق، فما يمدون يدا لإسعافه إلا ويضربونه بالأخرى على أم رأسه، فيتهاوى إلى أسفل الدركات؟ وقد بدا لي قبل أن أفارق مقامي، أن أنثر بعض ملح الطعام على هذا المقال، فأحببت أن أشير إلى ما تناقلته الصحف من أخبار مفادها اتساع نطاق التحالف ليشمل الحركات الشيعية في مصر! والأمر إليكم، والحكم لكم! وكما هو معلوم، فإن شيعة مصر يدينون بالمذهب الإمامي الإثنى عشري، وهو علاوة على اشتماله على عقيدة تكفير الصحابة رضوان الله عليهم –فضلا عن عامة أهل السنة-، فإنه يرتكز مؤخرا –منذ تولي الخميني للسلطة- على نظرية (ولاية الفقيه)، والتي تمثل أبشع صور الدكتاتورية وأظهر صور الدولة الدينية الثيوقراطية في عصرنا الحاضر! ونظرية (الدولة الدينية) هذه هي التي خلق منها الليبراليون -دعاة الدولة المدنية- تلك الفزاعة الشهيرة، التي بها حاولوا صد الناس عن التيار الإسلامي، الذي يجاهد لإقامة الدولة الدينية الثيوقراطية –كذا قالوا زورًا-، فها قد عثروا على من يمثل تلك النظرية المفزعة بحق! بل وجدوا من يتدين لله بتطبيقها على طريقة (ولاية الفقيه)، ولكنهم لم يحَذِّروا منه هذه المرة، بل فتحوا له الباب على مصراعيه للمساعدة في الانتصار (للدولة المدنية)، والقضاء على أكبر خطر هدد أمن مصر وعرقل نهضتها في تاريخها الحديث: التيار الإسلامي! والله أعلم بالنوايا، وما كنا للغيب حافظين.. لا ينقضي العجب ولا تطمع أن ينقضي، والأيام حبلى، ولعلي ألقاكم في حلقة جديدة نتناول فيها ممارسة ليبرالية ربما تظهر خلال أيام على نفس الشاكلة، من سلسلة: (الليبراليون المصريون..تناقضات تعجز عن حصرها!)