«الفنية للحج»: السعودية تتخذ إجراءات مشددة ضد أصحاب التأشيرات غير النظامية    أبو الغيط: لا بد من لجم جماح العدوان الإسرائيلي بشكل فورى    عمرو أديب يكشف حقيقة تمرد إمام عاشور على حسام حسن (فيديو)    "شاومينج " ينتصر على حكومة السيسي بتسريب أسئلة التربية الوطنية والدين مع انطلاق ماراثون الثانوية العامة    iOS 18 .. تعرف على قائمة موديلات أيفون المتوافقة مع التحديث    تزاحم الجمهور على خالد النبوى فى العرض الخاص لفيلم أهل الكهف    مندوبة بريطانيا بمجلس الأمن: نحن فى أشد الحاجة لتلبية الحاجات الإنسانية لغزة    محافظ الغربية يتابع أعمال تأهيل ورصف طريق كفور بلشاي    نصائح يجب اتباعها مع الجزار قبل ذبح الأضحية    التضامن توضح حقيقة صرف معاش تكافل وكرامة قبل عيد الأضحى 2024    سهرة خاصة مع عمر خيرت في «احتفالية المصري اليوم» بمناسبة الذكرى العشرين    دبلوماسي روسي: تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية بسبب واشنطن    «القاهرة الإخبارية»: سرعة الموافقة على مقترح وقف إطلاق النار أبرز مطالب بلينكن من نتنياهو    وزير خارجية الأردن يشدد على ضرورة الوقف الفوري للحرب على غزة    ملخص وأهداف مباراة أوغندا ضد الجزائر وريمونتادا محاربى الصحراء.. فيديو    متحدث «الشباب والرياضة»: سلوك معلم الجيولوجيا مخالف لتوجه وزارة التربية التعليم    متحدث "الرياضة": سلوك معلم الجيولوجيا مخالف لتوجه وزارة التربية التعليم    سيف زاهر: مصطفى فتحي كان بديلًا لمحمد صلاح ولكن!    تضامن الدقهلية تختتم المرحلة الثانية لتدريب "مودة" للشباب المقبلين على الزواج    "فضل يوم عرفة" أمسية دينية بأوقاف مطروح    افتتاح مدرسة ماونتن فيو الدولية للتكنولوجيا التطبيقية "IATS"    إبراهيم عيسى: تشكيل الحكومة الجديدة توحي بأنها ستكون "توأم" الحكومة المستقيلة    سعر الذهب اليوم الإثنين.. عيار 21 يسجل 3110 جنيهات    محمد لطفي يروج لشخصية الشربيني في فيلم ولاد رزق 3    قصواء الخلالي: الصحافة الفلسطينية قدمت 145 شهيدا حتى الآن    غدا.. "ليتنا لا ننسى" على مسرح مركز الإبداع الفني    هل يجوز الأضحية بالدجاج والبط؟.. محمد أبو هاشم يجيب (فيديو)    «الإفتاء» توضح حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة    الأفضل للأضحية الغنم أم الإبل..الإفتاء المصرية تحسم الجدل    وزير الصحة: برنامج الزمالة المصرية يقوم بتخريج 3 آلاف طبيب سنويا    عادة خاطئة قد تصيب طلاب الثانوية العامة بأزمة خطيرة في القلب أثناء الامتحانات    تفاصيل قافلة لجامعة القاهرة في الصف تقدم العلاج والخدمات الطبية مجانا    لفقدان الوزن- تناول الليمون بهذه الطرق    لميس الحديدي تكشف عن سبب إخفائها خبر إصابتها بالسرطان    محمد ممدوح يروج لدوره في فيلم ولاد رزق 3    ميدفيديف يطالب شولتس وماكرون بالاستقالة بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي    "وطني الوحيد".. جريدة المصري اليوم تكرم الكاتب مجدي الجلاد رئيس تحريرها الأسبق    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    مصر تتربع على عرش جدول ميداليات البطولة الأفريقية للسلاح للكبار    ختام الموسم الثاني من مبادرة «طبلية مصر» بالمتحف القومي للحضارة المصرية    موعد محاكمة ميكانيكي متهم بقتل ابن لاعب سابق شهير بالزمالك    جامعة أسيوط تطلق فعاليات ندوة "الهجرة غير الشرعية: أضرارها وأساليب مكافحتها"    الرئيس الأوكراني يكشف حقيقة استيلاء روسيا على بلدة ريجيفكا    سفر آخر أفواج حُجاج النقابة العامة للمهندسين    ليونيل ميسي يشارك في فوز الأرجنتين على الإكوادور    "بايونيرز للتنمية" تحقق أرباح 1.17 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام    وزارة الأوقاف: أحكام وصيغ التكبير في عيد الأضحى    مستشفيات جامعة أسوان يعلن خطة الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى    تشكيل الحكومة الجديد.. 4 نواب في الوزارة الجديدة    أفيجدرو لبيرمان يرفض الانضمام إلى حكومة نتنياهو    مفاجأة مثيرة في تحقيقات سفاح التجمع: مصدر ثقة وينظم حفلات مدرسية    مطلب برلماني بإعداد قانون خاص ينظم آليات استخدام الذكاء الاصطناعي    صندوق مكافحة الإدمان يستعرض نتائج أكبر برنامج لحماية طلاب المدارس من المخدرات    الدرندلي: أي مباراة للمنتخب الفترة المقبلة ستكون مهمة.. وتحفيز حسام حسن قبل مواجهة غينيا بيساو    رئيس منظمة مكافحة المنشطات: رمضان صبحي مهدد بالإيقاف لأربع سنوات حال إثبات مخالفته للقواعد    حالة الطقس المتوقعة غدًا الثلاثاء 11 يونيو 2024| إنفوجراف    عمر جابر يكشف كواليس حديثه مع لاعبي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماعات الصوفية المصرية (4/7) .. الطريقةُ القادرية.. فكراً ومنهجاً وسلوكاً
نشر في المصري اليوم يوم 08 - 06 - 2011


يا زُهَّاد الأرض: تقدَّموا،
خرِّبوا صوامعكم
واقربوا منى،
قد قعدتم فى خلواتكم
من غير أصل،
فما وقعتم بشىء
تقدَّموا، رحمكم الله،
والتقطوا ثمار الحِكَم..
ما أريدُ مجيئكم لى
بل أريده لكم
■ ■ ■
يا أهلَ الأرضِ شَرْقاً وغرْباً، ويا أهلَ السَّماءِ
قال تعالَى (وَيَخْلُُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)
أَنَا مِمَّا لاَ تَعْلَمُونَ..
أَنَا لُبٌّ بلا قِشْر
بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، وبَيْنَ الخَلْقِ
بُعْدُ ما بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
فَلا تَقِيسُونِى على أَحَدٍ،
وَلا تَقِيسُوا أَحَداً عَلَىّ
■ ■ ■
بهذه الكلمات الهادرة المتفجرة، تحدث مؤسِّس الطريقة القادرية: الإمام الصوفى، الفقيه الحنبلى، عبدالقادر الجيلانى، المتوفَّى ببغداد سنة 561 هجرية (وكان مولده بناحية جيلان الفارسية، سنة 490 هجرية).. وهو الذى صارت طريقته الصوفية بفروعها المختلفة، أوسع الطرق الصوفية انتشاراً فى العالم، شرقاً وغرباً، على امتداد القرون التسعة الماضية، وحظيت بما لا حصر له من أتباع (مريدين) كانوا دوماً ينظرون إلى الإمام الجيلانى، الذى وصفه ابن تيمية بشيخ الإسلام فى زمانه، على أنه الإمام الذى حقق المعنى الصوفى الكامل لكلمة (الشيخ)، وهى الكلمة التى تحتاج شيئاً من الشرح.. فدعونا نسترجع هذا المعنى، مما سطرناه قديماً:
على أطراف صحارى الخلْق، وعند حدود دروب الدنيا، يضرب شيوخ الصوفية خيامهم، ليدلُّوا السالكين على سبيل العروج إلى الخالق، ويرشدوا التائبين إلى منارات طريق الآخرة. فالشيوخ هم الأدلاَّء، وهم العارفون بمسالك القرب إلى الله، لهم فراسة فيمن تهيأ للرقى، ولهم معرفة بالغارقين فى بحر الغفلات.. فما تُخطئ نظرتهم فيمن أقبل عليهم أو مَرَّ بهم، وكيف تُخطئ؟ وهم الناظرون بنور الله، المتنعِّمون بعنايته الأزلية السابقة فيهم؟!
وكان الصوفية قد أفردوا الصفحات الطوال للكلام عن شيوخ الطريق، وعن علو مقاماتهم، وعن أهمية دورهم.. حتى جاء مولانا جلال الدين، وعبَّر عن هذه الأفكار شعراً، ففى إحدى قصائد المثنوى الرمزية التى بلغت حَدَّ الروعة، يقول:
«إنَّ الشيُوخَ.. هُمْ هَؤلاء الَّذينَ - قَبْلَ أنْ يُخْلَقَ هَذَا الْعَالَمُ - كَانَتْ أرواحهم غَرْقَى فى بحرِ الجودِ! وحينَ اعْتَرضَ الملاَئِكَةُ عَلَى ذَلِكَ الخلْقِ، أَخَذُوا يَسْخَرُونَ فى الخفَاءِ مِنَ الملاَئكَةِ.. إنَّ الشُّيُوخَ قَدْ أَبْصَرُوا الشتاء إبَّانَ الصيَّفِ اللاَّهِب، وَشَاهَدُوا الظِّلاَل فى شُعَاعِ الشَّمْس، فَالسَّمَاءُ نَشْوَى بِمَا يُدارُ فى كَأْسِهمْ مِنْ شَرَابٍ، والشَّمْسُ مِنْ جُودِهِم تَرْفُلُ فى وَشْىِ الذَّهب».
وحينما يتهيأ السالك للدخول فى حرم الشيخ المربِّى، يُسمَّى آنذاك بلغة القوم: مريداً.. وهى تسميةٌ مشتقةٌ من (الإرادة) التى هى تركُ ما جَرَتْ عليه العادة، ومفارقة حظوظ النفس، ونهوض القلب فى طلب الحق، فبهذه الإرادة يتجه المريدُ إلى صحبة شيخ الطريق.
وكان الإمام الجيلانى يقول دوماً (لا رضاعَ بعد الحولين) منبِّهاً بهذه الإشارة الرمزية، إلى حقيقةٍ من حقائق الطريق الصوفى، قلَّما نجدها عند غيره من أقطاب التصوف، وهى وجوب انقطاع المريد عن شيخه متى صَحَّت بينهما الصحبة، وتأدَّب المريد على يد شيخه حتى وصل إلى حالٍ يمكنه معه مواصلة السير إلى جهة الحق.
ولوقت المفارقة دلائل وإشارات، أولها فناء «الهوى» من قلب السالك، ثم هجرانه الدنيا كليةً، وإن كان شىءٌ منها بيده، لا يكون فى قلبه، ثم صِدْق إقباله على الله، حتى يقبل الله على المريد ببعض أسراره.. وعندئذٍ، قد يكون لهذا المريد سرٌّ، لا يطَّلع عليه شيخه، كما أن للشيخ سراً لا يطَّلع عليه مريده! فيكون للمريد تعلُّقٌ بربه وسبيل إليه، يخالف سبيل الشيخ وتعلُّقه بخالقه.. يقول الإمام الجيلانى: فكيف يجتمعان، بعدما خُولِفَ بين طريقيهما؟
وعلى الرغم من تأكيده على هذه النقطة السابقة، فإن الطريقة القادرية (صحبة الشيخ والمريدين) اتسعت فى أنحاء العالم الإسلامى، بسبب عوامل أربعة: اهتمام الشيخ المؤسِّس بإرساء قواعد طريقته على الأصول الإسلامية الواضحة، الذرية الكثيرة التى خلَّفها الشيخ فتولى أولاده وأحفاده إحياء طريقته من بعده، تلقِّى عديد من كبار الصوفية الذين وفدوا على الإمام الجيلانى فى بغداد أو التقوا به فى مكة، سقوط بغداد سنة 656 ه، مما أدى إلى نوع من اللامركزية فى الطريقة القادرية، حيث لم تعد بغداد هى محطّ أنظارهم كمركزٍ للطريقة.. وهكذا اتخذت (القادرية) سبيلها فى العالم الإسلامى، سَرَباً، ووصلت منها أربعة فروع إلى مصر، هى بحسب الترتيب الزمنى لظهورها:
■ ■ ■
(1) القادرية الفارضية: وهى الأقدم عهداً بمصر، ترجع جذورها التاريخية إلى القرن السابع الهجرى، ومقرها بجامع السادة القادرية بالقرافة الصغرى بالقاهرة، وهو مسجدٌ عتيق تفوح منه رائحة القرون، وكان المسجد قد بُنى فى القرن السابع ليكون زاويةً للشيخ «عدىّ بن مسافر» أحد تلاميذ الإمام الجيلانى، الذى يتمسَّح به (اليزيدية) ويجعلونه من مشايخهم المؤسِّسين لمذهبهم العجيب الذى لولا استقرار القادرية فى المسجد، لكانت مصر قد ابتُليت باليزيدية منذ وقت بعيد.. وللتوضيح: اليزيدية طائفة من الأكراد، يسكن أكثرهم فى جهات الموصل العراقية وأروان الروسية، ومنهم طوائف فى نواحى دمشق وبغداد وحلب، وهم يدينون بعبادة الشيطان، ولهم كتابان (مقدسان) أحدهما «كتاب الجلوة» الذى يتضمن ما خاطب الله به عباده (اليزيدية)، مؤكداً أن جميع الكتب السماوية الأخرى، محرَّفة، والكتاب الآخر، هو «مصحف رَشْ» أى الكتاب الأسود، وفيه حديث خلق السماوات والأرض والملائكة والعرش وآدم وحواء، وأخبار القرون الأولى.
وللشيخ «عدىّ بن مسافر» المقام الأكبر عند اليزيدية، وقبره هو الكعبة التى يحجُّون إليها، وهم يسجدون لقبر الشيخ ويقولون إن الذى لا يسجد له فهو كافر!
فلما استقرت الطريقة القادرية بمنهجها (السُّنى) الواضح، بهذا المسجد القاهرى العتيق، انصرف عنه، وعن مصر كلها، جماعة اليزيدية الذين كادوا يستقرون فيه، لولا مجىء حفيد الإمام الجيلانى (علاء الدين علىّ القادرى) الذى استوطن مصر مع أسرته، منذ القرن الثامن الهجرى.. أما لقب «الفارضية» فهو مستمدٌّ من أحد مشايخ الطريقة المتأخرين، هو حفيد الإمام الجيلانى: محمد بن سليمان، الملقَّب بالفارضى، لأنه كان يتولَّى إثبات فروض النساء على الرجال، وهى وظيفة شرعية قديمة، منها اشتُق أيضاً لقب شاعر الصوفية الأشهر: ابن الفارض.. والشيخ الحالى للطريقة، هو السيد/ مسعود حجازى (المقيم الآن بالدقى) ولهم فروع بالقاهرة والدقهلية والشرقية.
■ ■ ■
(2) القادرية القاسمية: وهى ثانية الطرق القادرية المسجَّلة اليوم بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية. وهى فرع عتيق من القادرية بمصر، ذكر المستشرق الفرنسى المرموق «لوى ماسينيون» أنها وفدت إلى مصر فى القرن التاسع عشر، لكن هناك عديداً من الشواهد، تدل على أنها أقدم من ذلك عهداً بالبلاد.. وقد سمعتُ من شيخ القادرية القاسمية (نسبة إلى قاسم الكبير) قصة غريبة تؤرخ لبداية هذه الطريقة بمصر، هى حسبما يحكى الشيخ: دخلت امرأةٌ على الإمام الجيلانى فى مدرسته ببغداد، تشكو إليه مرضاً عضالاً كان الأطباء قد وصفوا لعلاجه الرُّمان، ولم يكن الوقت أوان رُمَّان، فأسرع «عيسى» ابن الإمام الجيلانى، ومَدَّ يده فى الهواء وأحضر لها رُمَّانة! فقال له الإمام الجيلانى إن بغداد لن تسعهما معاً، وأمرَه بنزول مصر، فبدأت الطريقة القادرية القاسمية فى مصر على يديه!
ويتضح من هذه الحكاية، لونُ التفكير الغالب على القاسمية، وتأثرها ببدع العامة ومتأخرى الصوفية وتعلُّقهم بحديث الكرامات، ومما لا شك فيه، أنه ليس ثمة حقيقة تاريخية وحيدة فيما رواه لى شيخُ القاسمية، وليس ثمة جوانب فكرية أصيلة لهذه الطريقة.. ومع غروب الفكر الصوفى الأصيل من سماء القادرية، وبقائها كواحدة من الطرق الصوفية ذات الطابع (الشكلى) المتوارث، راح العامةُ يدخلون فى هذه الطريقة بيُسر، وبأعداد كبيرة، حتى إننى سألتُ شيخ الطريقة عن عدد مريديه، فأجاب بما معناه أن هذا العدد: لا يقع تحت الحصر!
لكن فرع القادرية القاسمية بالفيوم، تولاه شيخٌ على درجة عالية من العلم والمعرفة، هو الشيخ «محمود عبدالتواب الفَزَارى» الذى كان قد تلقى معالم الطريق الصوفى من والده، ودرس فى الأزهر، ثم درس الجيولوجيا فى جامعة الإسكندرية وحصل على الماجستير فى الجيولوجيا التطبيقية من جامعة ويزيربورج الألمانية.. وعاد إلى الفيوم فاستصلح أرضاً كثيرة للزراعة، وأقام رباطات صوفية عديدة فى صحراء الفيوم.
■ ■ ■
(3) القادرية الشرعية: فى أعماق مسجد الإمام الشعرانى بالقاهرة، وبعيداً عن هوس المدينة وصخبها، ينزوى فرعٌ من فروع القادرية بمصر، كان قد وفد من بلاد المغرب مع الشيخ «عبد المنعم القادرى» الذى تلقى الطريق عن شيخه محمد حبيب الله الشنقيطى، الذى تلقاه بدوره عن شيخه المجاهد العظيم: ماء العينين القادرى.
وإذ يستوقفنا هنا سبب تسمية هذه الطريقة، بالقادرية (الشرعية) فإن شيخ الطريقة المشار إليه قبل قليل، يقول فى كتابه «الركائز الإيمانية» إن تسمية طريقته مستمد من الأوراد الشرعية التى أُلهم بجمعها، ولا تخرج فى جملتها عن الكتاب والسنة.
وفى الثامن والعشرين من رجب، سنة 1406 هجرية، انتقل شيخ القادرية الشرعية إلى جوار رَبِّه، فانتقلت معه الطريقة إلى سراديب الاضمحلال والتشتت فقد شاء الحق تعالى ألا يُخلف هذا الشيخ أولاداً، ولم يَخلفه أحدٌ من مريديه فى مشيخة الطريقة، فتفلَّت الأتباع من الوثاق الروحى الذى كان يجمعهم، وابتلعهم الهوس.
ولقد رأينا الشفق الأخير لغروب هذه الطريقة، ففى مسجد الشعرانى (يوم الجمعة) كان الباقون لإحياء ليلة الذكر ومجلس العلم لا يتجاوزون فى عددهم أصابع يدٍ واحدة.. بعدما كان هذا المجلس، وفقاً لما ذكره القائمون على أمر المسجد، يموج بعشرات من الذاكرين والمتبتِّلين، ولقد جالسنا الباقين طويلاً، فما كان مجلس ذكرهم إلا صياحاً، وحادثناهم.. فلم نجد عندهم شيئاً من علوم الصوفية، ولم نجد لديهم خبراً عنها.
وعموماً، فأثناء سعينا وراء فروع القادرية فى مصر، لم نصادف من أنوار القادرية شيئاً، مثل ما وجدناها فى مشكاة روحية شفافة، تتلألأ بالإسكندرية، هى الفرع الرابع من فروع القادرية بمصر: القادرية النيازية.
■ ■ ■
وفى كتابه (كشف المحجوب) يقول الهجويرى: «إن الله لا يترك الأرض أبداً بلا حُجَّة، ولا هذه الأمة بلا أولياء.. كما قال عليه الصلاة والسلام، لا تزال طائفة من أمتى على الخير والحق حتى تقوم الساعة».
والقادرية النيازية طائفة من أهل الحق والخير، شاء الحقُّ تعالى أن تكون واحدة من الصور المشرقة للتصوف المعاصر، وموطناً من مواطن النور فى ديار المسلمين، وهذا الفرع القادرى متصل النسب بالإمام الجيلانى عن طريق ولده الشيخ عبدالرزاق.
والقادرية النيازية وفدت إلى مصر من تركيا، منذ قرابة خمسة قرون، فقد نزل بعض شيوخها الأوائل فى النصف الثانى من القرن العاشر الهجرى، واستوطنوا الإسكندرية منذ ذلك التاريخ.
ولقد اجتهدنا للتعرف على أصول هذه الطريقة بتركيا، فلم نجد غير إشارة عابرة، كان ماسينيون قد أوردها عن (الطريقة النيازية) بتركيا، معتبراً إياها أحد فروع الخلوتية هناك، وذكر ماسينيون فى إشارته، أن شيخ هذه الطريقة تُوفِّى سنة 1693 ميلادية، وبرغم التقارب التاريخى بين وفاة شيخ هذه الطريقة وبين شيخ القادرية النيازية (عبد الرحمن نيازى) فإننا لا نرجِّح أن يكون المشار إليه عند ماسينيون هو القادرية النيازية، إذ إن نزولهم بمصر، كان بتاريخ أسبق من تاريخ وفاة الشيخ الذى أشار له المستشرق الفرنسى الكبير.
ونظراً لانعدام المصادر الخاصة بتطور هذا الفرع القادرى، والتفصيلات الخاصة بانتقاله من البلاد العثمانية إلى مصر، فسوف يقتصر تناولنا على الحالة الراهنة لهذه الطريقة، ونرى أن المدخل الصحيح لهذا التناول، هو شيخها: إبراهيم حلمى القادرى.. وهو سكندرى المولد والمنشأ والإقامة والوفاة! فقد ولد بالإسكندرية فى 16 محرم سنة 1322 هجرية، وتلقى الرعاية من أفراد البيت القادرى الذى نشأ فيه، وظل متولِّياً مشيخة الطريقة من وفاة والده سنة 1355، وحتى انتقاله إلى جوار رَبِّه وهو ساجدٌ يصلى بمريديه تراويح ليلة القدر سنة 1390 هجرية.
وكان الشيخ مدرسةً صوفيةً جمعت أشتات المعارف الدينية، وفى هذه المدرسة تخرج رجال.. كما ترك الشيخ العديد من المؤلفات، منها ما هو مطبوع ومتداول، ومنها ما رأيناه بخط الشيخ ولم يطبع بعد.
نصَّ الشيخ إبراهيم حلمى القادرى على تولية ولده (محمد) قبل انتقاله إلى جوار ربه، وقد ورد النص بتولية الابن فى إحدى قصائد الشيخ .. ولا يزال السيد محمد إبراهيم حلمى قائماً مقام والده كشيخ للطريقة منذ انتقال الوالد.. ولا يزال مجلسهم منعقداً على النحو الذى رسمه الشيخ، فهناك، فى تلك الأمسيات النورانية الرائقة، كنا نرتحل إلى عالمهم.. وما إن نخلص من أسر الشواغل، ونلج بابهم المطرز بالنقوش النحاسية، حتى تشيع فى جنبات القلب طمأنينة السكينة، وتهب علينا نسمات شرقية قادرية، فتهدأ سورات الروح المتعب، ونتشوَّف إلى العتبات الطاهرات.
وعلى بساط القادرية النيازية، نلحظ للوهلة الأولى حضور الشيخ إبراهيم حلمى القادرى- رحمه الله- فى هذه الجلسات اليومية، فلا يزالون يتذوقون دقائق الشيخ وتلويحاته العرشية وإشاراته لمريديه، وما برحوا يستهدون بتوجيهاته فيما تسوق إليهم الأيام من أمور.
ويبدأ هذا المجلس اليومى بقراءة الفاتحة بضريح الشيخ، ثم يجتمع الإخوان مع الشيخ فى قاعة الدرس، ولهم فى كل يوم شغل: فيوم السبت مخصص لتدارس السُّنَّة، ويوم الأحد للحديث الشريف، والإثنين للفقه، والثلاثاء للتوحيد والتصوف، والأربعاء للتفسير.. ويوم الخميس تنعقد جلسة الذكر الشرعى والمراقبة، أما الجمعة فلا يجتمعون فى المساء، إنما يجلسون بعد صلاة الجمعة لقراءة ياسين، ثم ينصرف المريدون لتصريف شؤونهم الخاصة.
وخلال سنوات طوال، لم نَرَ سماعاً واحداً عند النيازية، ولم نَرَ مريداً يخرج عن حَدِّ الأدب، ولم نر جُهَّالاً يتساقطون كالذباب على موائد الموالد.. وإنما رأينا دوماً: مجلس علمٍ تَحفُّه الملائكة .
وبعد.. فقد كان عنوان مقالتى اليوم، هو عنوان رسالتى لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الإسكندرية. ونصُّ المقالة كله، هو فقرات نقلتها بنصِّها (ومن دون أى تعديل) من الكتاب الذى نشرت فيه جزءاً من رسالتى للدكتوراه، وصدرت طبعته الأولى (الوحيدة) عن دار الجيل ببيروت، سنة 1991، تحت عنوان: الطريق الصوفى وفروع القادرية بمصر.. وبالتالى، فإن هذه المقالة كُتبت قبل ربع قرن من الزمان، ونُشرت قبل عشرين عاماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.