غدا الأحد موقعة الحسم في انتخابات الرئاسة التونسية ، التي تدور بين معسكرين لا ثالث لهما ، معسكر الثورة والربيع العربي ومعسكر النظام السابق وداعميه في عواصم نفطية وعسكرية عربية ، يتقدم المنصف المرزوقي بخطى ثابتة ليقترب من الفوز مراهنا على الشعب التونسي فقط وقواه الحية وتطلعاته إلى الحرية والكرامة والقلق من عودة النظام القديم بفساده واستبداده واستهتاره بإنسانية الإنسان ويستنهض الفقراء والمهمشين ، وفي المقابل يتقدم منافسه قائد السبسي مراهنا على المال الخليجي السخي وشركائه التونسيين المليارديرات المتصلين أيضا بذلك المال ، والنخبة المترفة في تونس ، وانتهازية قطاع من اليسار التونسي ، والوعود المضللة والكاذبة عن بحار السمن والعسل التي سيغرق فيها تونس إذا انتخبوه مستغلا معاناة الشعب التونسي من تبعات الارتباك الاقتصادي والأمني الذي يعقب الثورات بشكل عام . النتيجة يصعب أن تحدد نتيجتها سلفا ، لأن كلا المعسكرين حشد طاقاته وإمكانياته وبذل قصارى جهده ، ورغم تقدم السبسي في الجولة الأولى على المرزوقي بحوالي ست نقاط ، إلا أن كل التقديرات الحالية تؤكد أن الفارق بين الاثنين لن يتعدى نقطة واحدة أو نقطتين في الإعادة لصالح أحدهما ، كما أن هناك عدة عوامل جديدة يمكن أن تؤثر بشكل حاسم على النتيجة ، يأتي في مقدمتها العامل الأهم والأوسع ، وهو الكتلة المقاطعة للانتخابات ، والتي لم تشارك في الجولة الأولى ، وهي كتلة تتجاوز ثلث عدد الأصوات التي شاركت ، وثلاثة أضعاف ما حصل عليه السبسي أو المرزوقي ، أي أنها كتلة ضخمة ، ومشاركتها في جولة الحسم ستغير المعادلات حتما ، لأنها تصل إلى 36% بينما الفارق بين الاثنين كان 6% ، وبدون شك فإن هذه الكتلة ، وإن كان لا يعرف أحد اتجاهاتها بالضبط ، إلا أن هناك إجماعا على أن "الشباب" هم قاعدتها الأساسية ، وهو الجيل الجديد الساخط على ما يجري وغير المقتنع بجدية ما يحدث ، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن مشاركة تلك الكتلة ستكون في صالح المرزوقي ، لأن الشباب هم وقود الثورة وهم الذين يحلمون بمستقبل أفضل وهم الذين يرفضون بشكل صارم عودة النظام القديم ، وبالتالي فهم ضد السبسي بشكل واضح وحاسم ، ولعل قلق هذا القطاع من جولة الإعادة واحتمالات أن ينتزعها ممثل النظام القديم تدفع بهم إلى التحمس للمشاركة في التصويت هذه المرة ، وبالمقابل هناك كتلة من البسطاء والفقراء لم يكن يعنيهم المشاركة بالتصويت ، وهؤلاء هم من يعمل عليهم بكل دهاء حملة السبسي مدعومة بمضخات المال الخليجي السخي لشراء الأصوات وتوفير مواصلات مجانية للحشد أيضا . موقف الجبهة الشعبية ، كبرى أحزاب اليسار التونسي ، بزعامة حمة الهمامي كان هو أسوأ ما في تلك الانتخابات ، عندما انحازوا ضمنيا لمرشح النظام القديم بدعوى أن المرزوقي هو مرشح الإسلاميين ، والمرزوقي اليساري المنقوع حتى الآن في تاريخ اليسار وخبراته ونضالاته الحقوقية والسياسية والمؤمن حتى النخاع بالعدالة الاجتماعية وأولويتها ، أصبح منبوذا لمجرد أن قطاعا من الإسلاميين يؤيده ، ويدعو "قيادة يسارية" إلى إسقاطه وخذلانه لصالح قوى الثورة المضادة ، وتلك مأساة لا يمكن وصفها بالسذاجة أو الطفولية السياسية ، بل هي انتهازية سياسية رخيصة تحاول أن تتفلسف بغلالة مزيفة من المبادئ أو الصراع الإيديولوجي ، وهي في جوهرها بحث عن المشاركة في "جزء" من كعكعة السلطة والوزارة ، وفي تقديري أن قواعد اليسار التونسي ، وخاصة شباب اليسار لن يستجيبوا لدعوات "الحمامي" وسيكونون في معسكر الثورة والمستقبل والعدالة الاجتماعية . أيا ما كانت النتيجة ، فإن الثورات المضادة ورموزها ورعاتها في عواصم العرب لن يمكنها المتاجرة بما يحدث في تونس ، لأن النتائج أيا كانت ستكشف عن تجربة ديمقراطية جديرة بالاحترام والمحافظة عليها ، بعيدا عن لعبة العسكر والدولة العميقة ، وأن الديمقراطية واحترام الحريات العامة والتعددية والتداول السلمي للسلطة هو الضمانة الأكيدة الآن لحماية المجتمع المدني والدولة من الاحتراب الأهلي والعنف المنفلت والانقسام المدمر والمعطل لطاقات الوطن كله ، على النحو الذي نراه عيانا بدرجات متفاوتة في بلدان الربيع العربي المختلفة .