النظام الدولي كما أتصوره يتكون من حلقتين، حلقة أُسميها دول المركز وهي الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية، وحلقة أوسع هي دول الأطراف التي تشمل كل العالم ما عدا دول المركز. فدول المركز تسيطر على دول الأطراف عبر أربع وسائل: الوسيلة الأولى: احتكار التقنية العسكرية احتكار صناعة السلاح بكل أنواعه التقليدي وغير التقليدي، فدول المركز تلح على حقها في احتكار التقنية العسكرية، والمشكلة التي بينهم وبين إيران —حاليا- تفصح عن هذه المشكلة، فممنوع على دول الأطراف أن تباشر في الولوج إلى ميدان التقنية العسكرية. لقد ثارت ثائرة الأمريكان على نجم الدين أربكان في تركيا عندما كان وزيراً للصناعة في تركيا، وطرح على مجلس الوزراء أن يباشر في صناعة الذخيرة -فقط- لتزويد الجيش التركي، وثارت ثائرة الأوروبيين، وساهموا في الانقلاب العسكري لإقصاء نجم الدين أربكان من دواليب السلطة وإلقائه في غياهب السجن، وإحداث هذا التغيير عبر العسكر الترك الذين يتميزون بعمالة فائقة للأمريكان وللغرب الأوروبي. لقد انزعجوا من مبادرة أربكان ورأوا أن هذا مؤشر خطر. السلاح تصنيعاً وتسويقاً وترويجاً ومنحاً ومنعاً يجب أن يكون حسب تصور دول المركز بيد أمريكا والغرب الأوروبي، وعلينا نحن في دول الأطراف أن نستهلك هذا السلاح. ومعلوم بأن الذي يتحكم بالسلاح يتحكم بالحرب وبنتيجة الحرب وبتوقيت الحرب، ومن هنا كان من حق الكيان الصهيوني أن يتفوق علينا حسب نظرية دول المركز، من حق الكيان الصهيوني أن يتفوق على العرب عسكرياً، وأن تكون لديه ترسانة نووية -حسب التقديرات تفوق 250 رأسا نوويا- في مفاعل ديمونا بصحراء النقب، لكن ليس من حق العرب والمسلمين أن يفكروا مجرد تفكير، فضلا عن أن يبادروا بغشيان مجال التصنيع العسكري. لقد بدأ العراق منذ فترة بدخول هذا المجال ونجح في بناء قاعدة من العلماء ولكن أوعزت الولاياتالمتحدة، ولا أقول بادر الكيان الصهيوني، للصهاينة بضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981، وتخريب كل الخطوات البناءة التي قام بها العراق لبناء تجربة علمية في العالم العربي في هذا المجال. وعندنا تصور مؤسف للغاية أن هذا الكيان الصهيوني هو الذي يهيمن على أمريكا والغرب، وهذا تصور خاطئ، لأنه يخدم الكيان الصهيوني، فالكيان الصهيوني لا يسيطر على الغرب، إنه هراوة بيد الغرب، إنه هراوة صنعها الأمريكان والأوروبيون لضربنا وضرب الأمة متى شاءوا وكيف شاءوا وأين شاءوا. فالكيان الصهيوني أحقر من أن يسيطر على الغرب، بل الغرب الذي يستعمل الكيان الصهيوني لضربنا، ولقد ضرب الكيان الصهيوني عدة تجارب عربية حتى في الوحدة. إن احتكار التقنية العسكرية وسيلة من وسائل السيطرة، لذلك نحن دول مكشوفة عسكرياً، يستطيع عدونا أن يضربنا في أي فترة، ففي سنة 1975م عندما أقدمت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة على حظر النفط عن الولاياتالمتحدة أيام المرحوم فيصل بن عبد العزيز، بادر الأمريكان بتهديد دول الخليج في شتاء 1975م، بحيث يمكن احتلال شريط النفط من الكويت إلى سلطنة عمان، وقدمت ورقة إلى الكونجرس الأمريكي -وهي موجودة في مكتبة الكونجرس تستطيع شراءها بأقل من دولار واحد، ونشرت في بعض الكتب- تكشف عن الخطة التي عرضت على لجنة الدفاع والأمن في الكونجرس حول ضرورة احتلال شريط النفط من الكويت إلى السلطنة، وقد علق عليها كثير من المؤرخين والمحللين الاستراتيجيين في الولاياتالمتحدة. وبعد مداولات خلص الكونجرس إلى أنه لا تحتاج الولاياتالمتحدة للدخول في مجال الاحتلال العسكري لدول الخليج، حيث إن هذه الدول تقدم النفط بالأسعار التي يقبل بها السوق في الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية. إذاً أول ضلع للتحكم هو التقنية العسكرية، ممنوع علينا أن ننتج السلاح، ممنوع علينا أن نفكر بإنتاج السلاح أو الذخيرة، ممنوع علينا أن ندخل في مجال التقنية العسكرية، وعلينا أن نبقى مستهلكين، نستورد السلاح بالطريقة وبالشروط التي تفرضها الولاياتالمتحدة وتفرضها أوروبا الغربية، والحلف الأطلسي يراقب هذه العملية، وله لجانه وله خبراؤه الذين يراقبون هذه العملية. الوسيلة الثانية: احتكار الخامات: الضلع الثاني للتحكم في مقدراتنا، احتكار الخامات، وأقصد بالخامات النفط والقمح. 1 السيطرة على النفط: دول المركز ترى أن حقول النفط كلها لا بد أن تكون تحت يد دول المركز، والعراق من أهم الاستهدافات، فلم يكن إقصاء صدام هو الهدف من الحرب الأخيرة، فصدام لا يحتاج كل هذه الجيوش الجرارة للتخلص منه أبداً، ولكن وضع اليد على حقول النفط في العراق. إذا من أهم الأسباب التي دفعت الولاياتالمتحدة لغزو العراق احتكار النفط: تنقيبا، نقلا، تسويقا وتسعيرا.. نحن دول منتجة للنفط، وحتى الآن ليس لدينا أساطيل لناقلات النفط، حتى نقل نفطنا والاستفادة من هذا النقل لا يحق لنا أبداً، من التنقيب إلى النقل إلى التسويق إلى التسعير كله بيد الشقيقات السبع، الشركات السبع الغربية التي تحتكر نفط المنطقة في الشمال الإفريقي، في الهلال الخصيب، في الجزيرة العربية، كل هذه الأرجاء خاضعة لهذه الميكانيكية في التعامل! نفطنا إذاً لا زال يستعمل لصالح الاقتصاد في دول المركز، وليس لصالح التنمية في دول الأطراف. فالنفط الآن ليس مصدرا للطاقة فقط، بل هو مصدر للنفوذ الدولي، إذ بسيطرة دول المركز على حقول النفط تكسب دول المركز التي هي الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية نفوذها الدولي. الصين الصناعية كابوس للولايات المتحدة، لكنها بحاجة إلى مزيد من النفط، من نفط العراق والخليج والمنطقة العربية عموما، وحاجتها للنفط متصاعدة. ولأن الولاياتالمتحدة تجتاح للسيطرة على حقول النفط في المنطقة، معناه أنها تستطيع أن تتحكم في العلاقة بين الصين والمنطقة، وبالتالي تستطيع أن تحاصر الصين تنموياً، ولذلك تلاحظون أن معالجة الأمريكان لموضوع كوريا الشمالية، معالجة حذرة ومترددة، ليس بسبب خوفها من كوريا الشمالية؛ بل لأن الضامن الإستراتيجي لكوريا الشمالية هو الصين. فالأمريكان خائفين من أن تتطور النزاعات مع كوريا الشمالية فتدخل الصين على الخط، فتكون الواقعة. الأمريكان يريدون الصين مشغولة في السوق، في الاقتصاد، في التنمية، في الترويج لأفكارهم داخل الصين. اليابان كذلك بحاجة ماسة إلى النفط، وليس لديها خامات تستطيع أن تنافس بها الدول الأخرى، هي تمتلك الموارد البشرية والتقنية، لكنها بحاجة إلى نفط، فكون الأمريكان يضعون أيديهم على حقول النفط في منطقتنا، فهذا يحول دون العلاقة الانسيابية بين اليابان والمنطقة العربية. أوروبا الغربية بحاجة إلى نفطنا، بل بحاجة ماسة إلى نفطنا أكثر من حاجة الأمريكان إليه، فكون الأمريكان يضعون أيديهم على حقول النفط في العراق وغيرها من أرجاء العالم العربي والإسلامي، فإنهم بهذا يحولون دون التنمية الأوروبية إلا بالقدر الذي يحقق لهم الفوائد في الميزان الإستراتيجي بينهم وبين الأوروبيين، وهناك خلاف كبير بين الأمريكيين والأوروبيين. وكيسنجر -مهندس السياسة الخارجية الأمريكية- كتب كثيراً في هذا المجال —مجال الخلاف- داخل الأطلسي بين الأوروبيين والأمريكان، وكتب كتابه الضخم (الشراكة المضطربةThe trouble participation). إن أوروبا لا تستطيع توفير رجال الأمن لحماية مدنها الرئيسية، وهناك أوضاع مضطربة كثيراً في أوروبا، لذلك لا زالوا يعيشون في ظل الأمريكان، ويتخوفون من الاصطدام معهم، وهناك خضوع إلى حد ما للإرادة الأمريكية داخل الحلف الأطلسي. 2 السيطرة على القمح: أذكر أن كيسنجر زارنا في الجزيرة العربية سنة 1975م، وكان من ضمن الأجندة التي تحدث عنها مع المسئولين في المملكة العربية السعودية زراعة القمح، وتساءل منزعجا لماذا تزرعون القمح؟ نحن نستطيع أن نورد لكم القمح إلى ميناء جدة بسعر أرخص بكثير من تكلفة إنتاج الكيلو الواحد في السعودية، فلماذا تزرعون القمح؟ وقيل له حينها: إن هناك توجها لدى الملك فيصل بن عبد العزيز وحكومته لتحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي الغذائي في الجزيرة العربية، وأن هناك قابلية للزراعة، وأن المملكة تريد استثمار هذه القابلية سواءً في أراضيها أو في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية. انزعج الأمريكان من هذا الكلام، وعقد كيسنجر مؤتمره الصحفي الشهير في مطار الرياض، وقال فيه كلاماً ساخنا مفاده: "افعلوا ما شئتم في الجزيرة العربية، وستكتشفون في المستقبل أنكم لن تستطيعوا شرب النفط"، كأنما يهدد بأنه إذا لم تقبلوا بسيطرتنا على النفط والقمح فسوف تندمون. هذا هو الضلع الثاني؛ سيطرة على النفط وسيطرة على القمح، فمن يسيطر على النفط يسيطر على التنمية، ومن يسيطر على القمح يسيطر على المعدة، وعملية الجوع لدى دول الأطراف. الوسيلة الثالثة: الشرعية الدولية: أما الضلع الثالث، فهو ما يسمى اليوم زوراً وبهتاناً (الشرعية الدولية). فالشرعية الدولية تتمثل اليوم بالأممالمتحدة، والأممالمتحدة في نظر دول المركز هي الآلة أو الترسانة القانونية الدولية التي تتحكم في اتجاهات العالم، فهم مسيطرون على مجلس الأمن، ولهم فيه حق الفيتو، ليقرروا: هذه دولة مارقة، وهذه زعامة مارقة، وهذه دولة مسموح لها أن تبقى، وهذه دولة ينبغي أن تشطب من الوجود، فأصبحوا متحكمين بنا عبر (الشرعية الدولية). فأصبحت الأممالمتحدة سلاحاً بيد الأمريكان وبيد الأوروبيين الغربيين، رغم أن الولاياتالمتحدة تهدد الأممالمتحدة بأنها سوف تتوقف عن دفع التزاماتها المالية للأمم المتحدة.. يعني أنها تهدد كيان الأممالمتحدة كله. لقد كانت معركة تجديد تنصيب بطرس غالي سنة 1996م أمرا كاشفا وفاضحا، فكل الدول بما فيها الأوروبية الغربية، بما فيها فرنسا، كانت تؤيد التجديد للمصري بطرس غالي الذي نجح في إدارة الأممالمتحدة، فأغلبية الجمعية العامة في الأممالمتحدة كانت متحمسة للتجديد له، وعدد من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن كانوا متحمسين للتجديد وبالأخص فرنسا.. لأن بطرس غالي يعتبر من أقطاب الفرانكفونية، وسعى في إقامة مؤتمرات للفرانكفونية داخل إفريقيا مما أعاد لفرنسا شيئاً من الهيبة فيها، فكانت فرنسا تجد مصلحة كبيرة في وجوده، ولكن الأمريكان تحفظوا من الاتجاه اللاتيني داخل الإدارة العليا في الأممالمتحدة، فقالوا لا بد أن نقمع بطرس غالي وأفريقيا، فأتوا بهذا الرجل الباهت، كوفي عنان، وهو رجل أثبتت الأيام ضعفه، وأنه لا يرقى إلى مستوى المسئولية الضخمة التي تحملها. وسارت الأمور في الأممالمتحدة لمصلحة الولاياتالمتحدة منذ أن تولى كوفي عنان منصب الأمين العام للأمم المتحدة. والملف النووي الإيراني أصبح بيد الولاياتالمتحدةالأمريكية، تستعين عليه بمجلس الأمن لمحاصرة إيران، وفرض العقوبات عليها، وإدخال المنطقة في توتر جديد. هذه هي سياسة واشنطن دائما. فالعقيدة العسكرية للولايات المتحدة —والتي يتبعهم فيها الأوروبيون الغربيون- تقول بضرورة تصعيد النزاعات والتوترات المحدودة والمحكومة استراتيجيا. فالأمريكان يتدخلون في موضوع فلسطين منذ الخمسينات، وهم حريصون على ما يسمونه ب(عملية السلام بين العرب والصهاينة). هم حريصون على العملية، ولكن ليس على السلام، حريصون على ال(process) وليس على ال(peace)، هم حريصون على أن تستمر العملية، وليسوا حريصين على السلام، لأنه في النهاية لا يخدم مصالحهم، بل الذي يخدم مصالحهم أن تظل المنطقة في حالة توتر، ولكن توترا محدودا ومحكوما استراتيجيا، حتى لا يتحول إلى حرب كارثية تهدد المصالح الفعلية للأمريكان والأوروبيين في المنطقة. إذا فلا بد من التفكير بكيفية معالجة هذا الضلع (الشرعية الدولية)، ومعالجة هذا الوضع، وهل يجب أن نخضع لمجلس الأمن والأممالمتحدة المفلسين، وإلى متى يظل العالم هكذا منذ سنة 1945م حتى الآن.. إنجليز، فرنسيون، أمريكان.. لديهم حق الفيتو ليتحكموا بالعالم، يقررون الحروب، ويقررون العقوبات الاقتصادية، ويحملوننا ما لا نطيق في هذه المنطقة. باتفاق مع العصر