بدأنا في رمضان الماضي على صفحات هذه الجريدة الغراء سلسلة بعنوان " خارطة الطريق من يوسف الصديق", وقد كان لطعم الكلمات مذاقا خاصا في ظل النظام البائد , وخاصة حين الحديث عن الابتلاءات والمحن,وايضا فيما يتعلق ببشارات الأمل.ولعل حلقات هذا العام تطرح حلولا لمصرنا في واقعنا المعاصر استلهاما من النص الكريم.. لقد حملت حلقات العام الماضي العناوين التالية: :"أهمية التخطيط للمستقبل" – تضمنت اشارات الى أهمية التخطيط,و كيف يمكن لمصر بالعزيمة والإرادة والتخطيط أن تتقدم لنيل مكانتها اللائقة بها. وكان المقال الثاني بعنوان " صفتان لازمتان للقائد" – تضمن أهمية أن يجمع القائد بين الصفات الأخلاقية والمهارية معا .. أما المقال الثالث فقد كان بعنوان" عثرات الطريق" وبينا فيه أن طريق التغيير والاصلاح والدعوة والنهضة يمر بعثرات ومصاعب, وأنه ليس طريقا مفروشا بالورود وكان المقال الرابع بعنوان (ان الله لا يهدي كيد الخائنين), ليرسل بشارات من الأمل للساعين الى التغيير والسائرين على درب الإصلاح والخير والفلاح لتمتلئ قلوبهم باليقين الراسخ الذي لا شك فيه, أن الخائنين مهما فعلوا, ومهما علت أصواتهم بجاههم وسلطانهم ونفوذهم, فإن طريقهم الى خيبة وخذلان, لأن الله قالها بوضوح وحسم بالغ: إن الله لا يهدي كيد الخائنين. وإذا كانت السورة تعطي ابعادا خاصة في العام الماضي,فإننا ونحن نستكمل معا هذه السلسلة في هذا الشهر الكريم من عامنا الحالي,نظن أنها ستكون بمذاق أخر بعد الثورة المباركة التي أطاحت برؤوس النظام الظالم الفاسد والمستبد, فما كان بالأمس من بشارات تتعلق بالمستقبل, وأمل نرنو اليه للتخلص من الطغيان, فقد أصبح اليوم حقيقة نعيشها ونتنسم عبيرها, ليجدد المؤمنون إيمانهم بربهم أن ما جاء به هو الحق المطلق.. وحديثنا اليوم من هذه السلسلة بعنوان : (حاكم رشيد), فقد عرضت السورة الكريمة اشارات عن الملك الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف عليه السلام,ونحن نثق أن الأحداث قد لا تتكرر, لكننا نعرف أن الإنسان هو الإنسان, وأن منظومة الحياة والموت والظلم والعدل والخير والشر هي نفس المنظومة منذ آلاف السنين والى يوم القيامة.. ربما تتعدد المشاهد وتتنوع لكن القيم الصالحة ستظل قيما صالحة, فالعدل سيظل هو العدل , كما أن الظلم سيظل ظلما, مهما تقدمت الوسائل والأساليب.. حاكم رشيد أوضح السياق القرآني الكريم في سورة يوسف بعضا من صفات ذلك الملك , والتي نحن (الآن) ودوما في أشد الحاجة لمثلها فيمن يحكم مصر, وغيرها من البلاد. 1/خُلق الشورى : حين رأى الملك تلك الرؤية العجيبة ( سبع بقرات هزيلة تأكل سبع بقرات سمينة!) فقام بعرض الأمر على مستشاريه ليلتمس منهم الرأي, ولم يقتصر عليهم بل سمح لساقيه أن يبدي رأيه في المسألة, كما أمهله أن يذهب ويستفتي من يثق به, ولعل سماح الملك بهذا التشاور كان سببا في نجاة مصر من المجاعة في ذلك الزمان, لندرك أهمية وقيمة الشورى. 2/ عدم الكبر: حين عاد الساقي بالتأويل السديد أعجب الملك بذلك, وأراد أن يتعرف أكثر على صاحب ذلك التأويل [ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (50)]. لكن يوسف امتنع عن الخروج وتلبية أمر الملك, وأي ملك هو؟ إنه كان ملك مصر, والتي كانت أعظم الممالك في ذلك الزمان, فحين مكن الله ليوسف في مصر, قال سبحانه (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56), وكأن التمكين في مصر كان يعني التمكين في الأرض كل الأرض! إننا نجد ملكا لمملكة عظيمة لا يغضب أو يثور حين أمتنع يوسف عليه السلام عن تلبية أمره, ولم يأخذه الكبر والغرور, وكان من المتصور أن يقول ( أيرفض عبد سجين أوامري ؟ افعلوا به كذا وكذا ..) وهنا نتعرف على صفة أخرى من صفات ذلك الملك نحن في أشد الحاجة لتوافرها في حكامنا حتى لا يتحولون الى فراعنة وطواغيت.. 3/ تقصى صحيح للحقائق: أرسل اللمك من يتقصى له الحقائق, ولم تمل التحقيقات أو تنحاز لصالح سيدة القصر صاحبة الجاه والنفوذ, بل جاءت التحقيقات صحيحة , ولصالح المتهم البرئ العبد السجين الغريب, وهكذا كان يوسف عليه السلام. 4/ قضاء عادل: لقد جاءت التحقيقات التي أمر بها الملك قاطعة وحاسمة وصحيحة, ولكنه لم يقض في المسألة إلا بعد استدعاء المتهمات للمثول أمامه وتوجيه الاتهام لهن لسماع ردهن: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ۚ ) , وهنا يتبين لنا صحة التحريات التي وصلت اليه,لذلك واجههن باتهام صريح بالمراودة .فقامت النسوة وامرأة العزيز بالاقرار, والاعتراف يعتبر سيد الأدلة.. 5/ اختيار صاحب الكفاءة: اطمأن الملك أولا الى ( علم) يوسف فقال: (ائتوني به), لكنه حين اطمأن الى ( أخلاقه) أيضا , فقد تأكد من توافر الصفتين اللازمتين لتولي المناصب ( العلم – الخلق ), والعلم يمثل القدرة " الفنية" اللازمة للقيام بالعمل , والاخلاق تمثل الإطار الأدبي الذي يعصم من الزيغ والانحراف. لقد اكتفى الملك بقوله ( ائتوني به ), عندما اطمأن الى صفة واحدة وهي العلم, لكنه عندما اطمأن الى توفر ( العلم والخلق معاً) كمعايير متكاملة صحيحة يحتكم لها, ويختار وزرائه على أساسها,قام باختيار يوسف عليه السلام لتوليته منصبا رفيعا بالدولة بلا سابق معرفة ولا قرابة كما ذكر القرآن الكريم: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (54).-وكأنه يقول: ما لهذا مترك ..مثل هذا لا يمكن أن نتجاهله بل يجب أن نقربه منا.. إن يوسف عليه السلام "بمعايير الناس" هو رجل غريب, كان مملوكا لعزيز مصر, خرج لتوه من السجن, وتلك المعايير" قد تمنعه من تولي إدارة الشئون الاقتصادية لمصر", لكن الملك الرشيد تجاوز كل تلك الشكليات, لأنه وجد إنسانا كريما نبيلا, لم يتلهف على الخروج من السجن,إلا بعداظهار براءته تماما, لذلك أطمئن الملك الى خلق وكفاءة يوسف, ووافق على توليته إدارة شئون الدولة اقتصاديا, ومنحه كآفة الصلاحيات لتحقيق الإصلاح وتنفيذ الخطة بحرية كاملة عبرتمكين كامل له يتصرف من خلاله كيف يشاء, وهو ما نفهمه من قول الله جل وعلا "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين".. 6/ اللقاء المباشر: كم من الأخيار لا يتعرف الحكام عليهم بسبب انسداد الطرق بينهم وبين الحكام, لكننا في قصة يوسف نجد أن الملك لم يكتف بالتعرف على علمه وخلقه فقط, , لكنه التقى به وكلمه لتكتمل رؤيته حول ذلك الشخص الغريب الذي كان مملوكا وسجينا من قبل. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) 7/ رد المظالم والاصلاح يؤدي للنجاة: قد نلمح في هذه القصة أن الفساد الذي ضرب بمصر في زمن يوسف عليه السلام ( قبل أن يتولي ادارة البلاد) والذي كان أهم مظاهرة فساد الاخلاق الضمائر والظلم الذي أدى بيوسف أن يكون سجينا, قد أوصل البلاد الى أن تقبل على ( مجاعة ) تكاد أن تعصف بكل شيئ, وحين تم تصحيح الأوضاع ورد المظالم وتولية الأكفأ, فقد نجت البلاد من تلك المجاعة, بل وفاض خيرها على البلدان المجاورة..حين أدارها يوسف عليه السلام بكفاءة وخطة واقتدار. إن القيادة المرجوة يلزم لها أن تنضبط بقوانين وتشريعات ونظم وخطط, لتحقيق الغايات المأمولة, بحيث تكون الولاية رحمة بالعباد والبلاد, للحاكم والمحكوم, تمنع الطغيان والفساد والاستبداد, ويأمن الناس علي حياتهم واعمالهم ومستقبلهم, كما تحقق للحاكم التعاون الكامل من شعبه رحمة به, حينئذ تكون الولاية رحمة, كما اتصف بها عمر بن الخطاب ذات يوم " حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر", رحمة تسمح بمكافأة المُحسن ومعاقبة المقصر وهي التي ختم الله بها قوله : "نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين",لذلك كان عجيبا أن تكون الرحمة غاية رسالة النبي صلي الله عليه وسلم, رحمة بالرجال والنساء والأولاد , رحمة بالطير والحجر والشجر, رحمة تسمح بالتعايش السلمي مع المختلف في الدين والعقيدة, كما جاء اجمالا في قول الله ( وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين )- الأنبياء . مصطفى كمشيش [email protected]