كل عام وأنتم بألف خير, أسأل الله لي ولكم ولأمتنا كل خير ونصر وسداد , هذه حلقات خاصة برمضان, فقد كان سلفنا الصالح يتركون كل أبواب العلم في رمضان تفرغا للقرآن , واحببت أن يكون لنا حال مع القرآن تدبرا وفهما واجتهادا , فاخترت "سورة يوسف" ليكون لنا معها وقفات في هذا الشهر الفضيل. قال تعالي في صدر سورة يوسف :[ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7 )]- , وقال سبحانه في خاتمة السورة : [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111(] فنحن إذن أمام آيات وعبر, ومواقف ودروس, وهدي ورحمة, في عطاء قراني لأولي الألباب من المؤمنين جيلا إثر جيل لا ينفذ ولا ينقطع.. ولا أحسب أن هذه السلسلة تفسيرا, لأن في تفسير المفسرين , قديما وحديثا, الخير والبركة والنفع والعلم والفضل, إنما هي خواطر يفيض بها النص لقارئ القرآن ومتدبر آياته.. فقد رأيت في السورة دروسا كأنها خارطة طريق للنهضة والريادة على مستوى الفرد والجماعة . ولذلك أتوقف مع عدة عناصر , سائلا الله أن يتحقق منها نفعا في واقعنا المعاصر, تأكيدا على عظمة النص الصالح لكل زمان ومكان وحال الى أن يرث الله الأرض ومن عليها , وبالله التوفيق. العنصر الأول : أهمية التخطيط لقد ساقت لنا السورة اربع رؤى : رؤية خاصة بيوسف عليه السلام, ورؤيتين خاصتين برفيقين من رفاق السجن, ورؤية رابعة تتعلق بالحاكم أو بالأمة. الأولي :[إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)] .. والثانية والثالثة : [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)].. أما الرابعة : [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)].. وإذ نرى أن منها رؤية عابرة منقطعة , هي رؤية حامل الخبز( الهالك) , بينما الرؤى الأخرى كانت كل واحدة بمثابة معبر أو جسر للرؤية التالية , فالرؤية الأولي أنتجت حسدا من إخوة يوسف عليه مما نجم عنه امتحانات وابتلاءات انتهت بيوسف عليه السلام الى السجن , ليتعرف على صاحب الرؤية الثانية ( الناجي) , والذي سيسوق له الرؤية الثالثة , وعن طريق تفسير الرؤية الثالثة سيتحقق له بفضل الله التمكين والريادة . وهكذا تبدو الحياة بما فيها من أحداث ومواقف, منها العابر , ومنها المرتبط بعضه ببعض, منها الوقتي ( كرؤية الهالك ) , ومنها المستمر , منها العاجل ومنها المؤجل ( إذ قام يوسف عليه السلام بالتأويل الفورى لكل الرؤي , بينما ترك الرؤية الاستراتيجية حتى تحققت وهي الرؤية الخاصة به ,إذ لم يقم بتأويلها , بل رأينا كيف أن الأحداث المتتالية وكأنها تؤدي اليها: [ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا] وربما يعني ذلك , اهتمام الفرد والجماعة بالأهداف المرحلية وأهمية العمل المناسب لها , دون اغفال الأهداف الاستراتيجية والتي من الممكن أن تتحقق كنتيجة كلية بعد تحقق النتائج الجزئية أو المرحلية على الطريق. لقد ارتبط تأويل تلك الرؤى جميعها بالمستقبل (على مستوي الفرد والجماعة) , ودارت أحداث القصة كلها في سياقها –, لندرك معها )أهمية التخطيط للمستقبل(, انطلاقا من فهم صحيح للواقع, وكما ذكر أهل التخطيط تعريفا له فقالوا : هو عملية منظمة مستمرة لتحقيق أهداف مستقبلية بوسائل مناسبة واستثمار الموارد والإمكانات بشكل أفضل وفقاً لأولويات مختارة بعناية . كما ذكروا أن مراحل بناء الخطة تنقسم الى : 1 تحليل الواقع 2 ضبط الرؤية 3 صياغة الأهداف العامة 4 استخراج الأهداف التفصيلية 5 اعداد البرامج ثم يلي ذلك مراحل التخطيط ( وفقا لما بقوله أهل ذلك العلم ) الخطوة الاولى : البدأ بدراسة العوامل المحيطة مثل العوامل الاقتصادية ، والسياسية، والاجتماعية وكذلك ظروف البيئة الداخلية مثل نوع الخبرات والكفاءات لدى الأفراد وكذلك الامكانات المادية المتاحة الخطوة الثانية: انطلاقا من تحديد ظروف البيئة يمكن تحديد الأهداف بشكل واضح . الخطوة الثالثة: في ظل تحديد الهدف , تتحدد البدائل التي من خلالها يمكن تحقيقه. الخطوة الرابعة : بدراسة البدائل التي يمكن من خلالها إلى تحقيق الهدف, ثم تقييم كل بديل من خلال معرفة وتحديد مدى تحقيق كل بديل للهدف, وكلما كان البديل أقرب إلى تحقيق الهدف النهائي كلما كان مرغوباً به أكثر. الخطوة الخامسة: بعد الانتهاء من الخطوة الرابعة المتمثلة في تقييم البدائل, تكون مرحلة الاختيار, أي تحديد البديل الأفضل، وفي هذه الحالة فإن المنظمة تختار البديل الذي يحقق هدفها وينسجم مع سياساتها وتكون مخاطره قليلة. الخطوة السادسة في ضوء البديل الذي يتم اختياره يقوم المخطط بتحديد الأنشطة والأعمال التي يجب القيام بها لوضع البديل المختار موضع التنفيذ وتكون الأنشطة على شكل : سياسات، إجراءات، قواعد، برامج، ميزانيات. من المهم الالتزام بها كضمانة لحسن التنفيذ. وقد رأينا كيف أن يوسف عليه السلام – دون هذا التنظير – قد درس واقع مصر بشكل جيد , وانتقل من الواقع لتحديد أهداف المستقبل , ثم ادار العملية بالامكانات المادية والبشرية المتاحة بكفاءة واقتدار, لم تعصم مصر فحسب من شر المجاعة بل عصمت المنطقة بأسرها , وفاض خير مصر على البلدان المجاورة بفضل الله أولا ثم بفضل التخطيط المنظم الدقيق والإدارة صاحبة الكفاءة والأمانة , فتحقق الخير والنفع . وإذ يتطلع المرء على واقعنا المعاصر , ونحن نرى شبابنا يعبرون البحار في مخاطر جمة سعيا لهجرة الى بلد أخر لعلهم يجدون فيه عملا ورزقا, ويقف بعضهم صفوفا متراصة أمام بعض السفارات أملا في الحصول على فرصة عمل أو تأشيرة دخول لبلد أخر هربا من واقع مظلم كئيب , ونرى أنظمتنا وهي تستورد قمحنا وجل طعامنا , بل وسلاحنا , ونقارن ذلك بما عرفناه من قرآننا , حيث رأينا أهمية العمل المنظم المخطط له جيدا على مستوى الفرد والمجتمع , ورأينا أن إدارة العمل تتطلب علما وأمانة , ونتذكر يوما كانت فيه مصر مهوى الافئدة , وملاذ المحتاجين , وسلة الغلال , لندرك كيف كنا وكيف أصبحنا, نسأل الله سبحانه أن يوفق أمتنا لما فيه خيرها . [email protected]