لا شك أن الثورة المصرية أحدثت نوعا من الارتياح فى نفسية كل مواطن، وجعلته يفخر بنفسه، ويشعر بأهميته، ويعتز بذاته وكرامته، وهذا أمر طبيعي بعد أن عانى المواطن المصري لفترات طويلة من الظلم والقهر والاستبداد من الأنظمة المتعاقبة على حكمه فى السنوات الستين الماضية، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب القيم والسلوكيات التى ترفع من شأن الإنسان وتعلى من قدره، ومن هذه القيم قيمة الوحدة والتعاون والاتفاق على الأساسيات والمبادئ، بحيث يتعاون الناس فيما اتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، وهذه القيمة العظيمة هى التى كان لها فعل السحر فى ثورة مصر المباركة عندما توحدت القلوب والمشاعر فى ميدان التحرير وميادين مدن مصر الكبرى على هدف واحد وغاية نبيلة وهى تخليص مصر مما كانت عليه.. وحدثت المعجزة التى لم يكن أحد يتصور حدوثها فى يوم من الأيام لتغلل الفساد فى قطاع عريض من مؤسسات الدولة ولكنه الاتحاد الذى تنهار أمامه كل العقبات. كان ينبغي أن نستثمر هذه القيمة ونقدر أهميتها ونجعلها وسيلتنا الصحيحة لتحقيق كل نجاح، ودواءنا الناجع لكل أمراضنا، وبلسمنا الشافي لكل جراحنا. ولكن حدث بعد ذلك أمر غريب، بدأ الخلاف يسيطر علينا من جديد، وتعالت صيحات الفرقة والتشكيك، وظهرت نعرات العصبية البغيضة، وأطلت علينا برءوسها فتن جديدة تنتظر الفرصة المناسبة للانفجار.. ولم يعد أحد يثق فى غير نفسه، وإعلامنا غير المأسوف عليه ساهم بقدر كبير فى إشعال نار الفرقة وزرع بذور الفتنة وكأنه لم يتعلم الدرس بعد فهو ما زال يتعامل بغباء غريب مع كل حدث مما يؤكد على ضرورة الاهتمام بالمؤسسة الإعلامية وإدراك خطورة الدور الذى تقوم به فى بناء الأمم أو هدمها. إنك إذا جلست فى مجلس الآن فى أى مكان سواء فى محيط العائلة أو الأصدقاء أو الزملاء تجد الكل يتكلم ولا يريد أحد أن يستمع إلى الآخر ولا يفكر فيما يقوله غيره أو يناقشه فيما يقول، أصبح عندنا فى مصر 80 مليون خبير سياسي و80 مليون خبير اقتصادي و80 مليون خبير اجتماعي و80 مليون محلل نفسي، و80 مليون خبير فني أو رياضي، وأصبح كل واحد ينظر إلى شخصيته على أنها الشخصية المثالية لكل المناصب وأنه وحده الصالح لكل زمان ومكان.. وأنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل، وباختصار شديد أصبح كل فرد رئيس جمهورية نفسه. وبتعبير آخر كل واحد ركب دماغه وأصبح لا يرى إلا رأيه ولا يقدر إلا ذاته، بدلا من أن نهتف من أعماق قلوبنا بصوت واحد: تحيا مصر.. تحيا مصر، أصبح كل واحد يهتف فى داخل نفسهك تحيا نفسي.. تحيا نفسي.. أنا لا أقلل من قيمة أحد لكن لا يوجد إنسان على ظهر الأرض يستطيع أن يفعل كل شىء فى هذه الدنيا، ولا يوجد مخلوق على ظهر الأرض يحسن أداء كل شىء. ولعل الانتخابات القادمة تؤكد حقيقة ما أقوله الآن عندما نرى المرشحين لمجلسي الشعب والشورى آلافا كثيرة ، ونرى عدد المرشحين لرئاسة الجمهورية يفوق كل تصور مما يجعل من المحتمل أن يدخل الناخب إلى لجنة الانتخابات ومعه كراسة فيها أسماء المرشحين ورموزهم وقد نتندر هنا ونقول: إن كثرة العدد تتطلب رموزا كثيرة قد تتشابه مع بعضها فما العمل إذن عندما نضطر مثلا إلى اختيار الحمامة والغراب واليمامة رموزا لبعض المرشحين فكيف يفرق بعض العوام الذين يختارون على أساس الرمز بين هذه الطيور المتشابهة، ويا ليت الأمر يتوقف عند الرموز المتشابهة وإنما البرامج المتشابهة للمرشحين فما الذى يدفعهم إذن للترشح .. إنني أتمنى أن يجتمع المرشحون للرئاسة فى صعيد واحد ويقول لنا كل واحد منهم ملخص برنامجه فى دقائق معدودة لعلنا نستطيع أن ندرك الاختلاف بين برامج هؤلاء فنختار من بينهم من يصلح أن يقود البلاد إلى بر الأمان ببرنامجه.. ولا أظن أننا سوف نرى اختلافات حقيقية بين برامج المرشحين. وقد تحدث الكارثة ويجد كل واحد منه نفسه هو الأصلح لقيادة البلاد فى الفترة القادمة فيترشح للرئاسة مليون أو أكثر فماذا نفعل؟ إن مصر تحتاج إلى رئيس واحد يكون مخلصا أمينا صادقا ويعاونه الشعب على تحقيق مصلحة البلاد . ولو افترضنا أنه سيسمح بتصدير الرؤساء لدول العالم فلن يحتاج العالم إلى أكثر من مائتي رئيس فماذا سنفعل بالباقين؟ يا قومي لا يستطيع إنسان على وجه الأرض مهما أوتى من قدرات أن يعيش بمفرده مستغنيا عن الناس، ولا يستطيع إنسان بمفرده أن يقوم بكل مهام الحياة، وما أحسنه من الأمور قد لا يستطيعه غيري، وكم من أمور أجهلها يحسنها غيري ويعلمها، فليلزم كل منا غرزه ويتقن ما يحسنه من عمل، ويفعل ما يجب أن يفعله، فإن كان فى المقدمة فهو في المقدمة وإن كان في الساقة فهو في الساقة، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، ورحم الله امرأ لا يتكلم إلا بما يعلم، فإن علم عمل، وإن عمل أتقن وأحسن، وإن أحسن أخلص.