علت في الآونة الأخيرة أصوات فريقين متطرفين. الفريق الأول يرى أن شباب الثورة – أو من بقي منهم في الحركات والائتلافات – مجرد "شوية عيال" لا خبرة لهم ولا دراية ولا حنكة، وأنهم من السهل التغرير بهم واستعمالهم من حيث لا يشعرون، ولا يرون في الشباب إلا رعونة وجهلا ونزقا. ويقر هذا الفريق بأن هؤلاء الشباب هم فعلا من فجر الثورة وكانوا شرارتها الأولى، ولكنه يرى أن هذا الدور انتهى الآن لأن الشرارة بطبيعتها مؤقتة ولحظية ولا يمكن الاعتماد عليها وقودا للمستقبل، فلسان حالهم يقول للشباب: شكرا لكم على قيام الثورة، ولكن تنحوا الآن جانبا وأفسحوا المجال لأهل الخبرة والسياسة، وعودوا مرة أخرى إلى شبكة الإنترنت ومارسوا عليها نشاطكم الصيفي. الفريق المتطرف الآخر من الشباب، ويرى أنه صاحب الثورة وإليه يرجع أمرها كله، وأنهم فقط أهل الحل والعقد الذين ينبغي أن يحصل كل قرار أو قانون أو سياسة أو حكومة على اعتمادهم ليمهروها بختم الثورة، وإلا كانت باطلة وضد الثورة. هذا الفريق يتعامل مع غيره باستكبار وأنفة، يصم آذانه عن أي رأي مخالف، لا يقبل من غيره صرفا ولا نصرا ويتصوره مؤامرة محبوكة ضد مصر، ولا يرى في الأجيال السابقة إلا أجيالا فاشلة عاجزة لا يحق لها الآن أن تتكلم أو أن يُسمع لها. هذا الفريق يسخر من أي مسئول متقدم في العمر، ويرى كبر سنه كافيا لاستبعاده ورفضه. هذا الفريق لا يتحاور إلا مع نفسه فلا تزيده الأيام إلا إصرارا على آرائه وتمسكا بمواقفه. كلا الفريقين تطرف ممقوت يهدد الجماعة الوطنية المصرية ويصيبها في مقتل ويشق فيها قطعا طوليا بامتداد الوطن. إن الشباب ليسوا مجرد الشرارة التي أيقظت روح الأمة فثارت على جلاديها، ولكنهم سيبقون الروح الفعالة لهذه الأمة وكل أمة. يكفينا لتصور قيمتهم وطاقتهم، أن نتذكر الكلمة المؤلمة التي قالها حسني مبارك في أعقاب انتخابات 2010 المهينة، إذ لم تجد قوى المعارضة المحبطة والمغلوبة على أمرها أمام ذلك التزوير الفج لإرادة الأمة، لم تجد إلا أن تعلن خطوة رمزية بتشكيل برلمان الظل، فلما سئل حسني مبارك تعليقا على هذه الخطوة الهزيلة قال "خليهم يتسلوا". كانت كلمته تعبيرا صادقا عن استهانته الكاملة بقوى المعارضة واستخفافه التام بها. في تلك الأيام المظلمة، كانت مجموعات من الشباب يملؤها الأمل في التغيير، وكانت تخطط وتجمع قواها وتحاول أن ترسم طريقا للمستقبل، وبعد أقل من شهرين من كلمة مبارك المهينة، كانت الثورة التي فاجأت العالم. إن طاقة الشباب هي الدم الذي يسري في عروق الأمة ويمدها بالطاقة اللازمة للإبداع والتغيير، وإن أي تهوين لشأنهم أو استخفاف بهم إنما هو خصم مباشر من الرصيد الوطني للبلاد. ولكم كنت أتمنى أن أرى بعض الوزراء – من أصحاب الكفاءات - في تشكيلة الحكومة الأخيرة في الثلاثينات من عمرهم، لينشئوا توازنا وحيوية في بنيان الحكومة. وعلى الجهة الأخرى، فإن التطرف الواقع من بعض الشباب ينبغي أن يجعلنا نصر على فتح حوار معهم، يعرفون به أن الأمة – أي أمة - لا تقوم بشبابها فقط، وأن الشباب إن تخلوا عن خبرة من سبقوهم ضل سعيهم وارتبك أمرهم، وأن جهودهم المباركة في الثورة لم تكن لتنجح لو اقتصرت عليهم، ولولا مشاركة الشعب بكل طوائفه لفشلت فكرتهم ولبطش النظام السابق بهم. إن الأمة لا تتكامل مساعيها إلا بطاقة الشباب وخبرة الكبار. ناقشني أحد هؤلاء الشباب في المليونية الأخيرة، فعجبت جدا من تصوراته المشوهة وتحقيره لكل رأي يخالف رأيهم. وكان مما قاله لي "أنتم مخدوعون بالمجلس العسكري .. المجلس العسكري ساحر سحر الشعب كله .. ونحن المعتصمين خط الدفاع الأخير والوحيد للدفاع عن مصر وعن الثورة". سألته: هل فعلا تعتقد أن الشعب كله مخدوع ؟ الشعب كله بمفكريه وخبرائه وعلمائه ودعاته وصالحيه .. كلهم مخدوعون، وأنتم فقط الذين انتبهوا للخديعة الكبرى .. الكل أعمى وأنت فقط "المفتحين" ؟؟ قال ببساطة شديدة ودون أن يرف له جفن: نعم .. وستثبت لكم الأيام هذا. لا سبيل أمامنا للتخلص من تطرف الفريقين، إلا أن تتكاتف جهود الجماعة الوطنية بعيدا عن المراوغات السياسية والعصبية لجماعة أو حزب أو تجمع. لا غنى لنا عن استيعاب الطاقات الهائلة لشبابنا ولا عن خبرة رجالنا الذين لم يشاركوا في ظلم وبطش وفساد النظام السابق. هذان الجناحان للأمة لا تحلق إلا بهما معا، وكل قول أو فعل يضعف أحدهما سيكون تخريبا لقدرة الوطن وتعجيزا لنشاطه وعافيته. إن مراجعة وتأملا لحواريي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المقربين منه وأهل مشورته، سيجدهم مزيجا جميلا من الشباب والرجال والشيوخ. نفس الشيء تجده في حكم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. إنها طبيعة المجتمع الناضج المتوازن، وبغيره ينشأ التطرف وحدة المزاج واضطراب الأحوال. د. محمد هشام راغب http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb