جاء الحكم بالبراءة على مبارك والعادلي ومعاونيه (وبراءة حسين سالم بالمرة) شهادة دامغة على انتصار الثورة المضادة في مصر أو على الأقل قربها من الانتصار النهائي في معركة الحرية. كان أشد الناس تشاؤما يتوقع أن نظام 3 يوليو لن يمنح خصومه مزيدا من الفرص على اتهامه بأنه امتداد طبيعي لنظام مبارك. وكان تأكيد السيسي أكثر من مرة أن نظام مبارك لن يعود، كما لن يعود نظام الإخوان يلمح ولو من بعيد أنه واعي بحقيقه اتهامه بأنه ونظامه عنوان كبير على الثورة المضادة في مصر، وأنه امتداد لنظام مبارك. حوكم مبارك على أساس قوانين هو من وضعها، فكانت البراءة هي النتيجة المنطقية. وحوكمت ثورة يناير من قبل أركان نظام مبارك وامتداده، فكان انتصار الثورة المضادة هو النتيجة المنطقية. وتكاتفت الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية على أن تقبع مصر في مكانها: لا أمل في مستقبل مشرق. ولااحتمال لتغيير سلمي ديمقراطي أربع سنوات إلا قليلا مرت على مصر كأنها الدهر، قامت ثورة وخرج الناس يطالبون بأبسط حقوقهم كمواطنين أو حتى كبشر، خرج الناس يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، خرج الناس يأملون أن تتحول مطالبهم في بر مصرإلى واقع بعد أن قست مصر بشدة على أبناءها. خرج الناس ليسقط نظام مبارك، لا ليتلف نظام مبارك على مطالبهم، وبعد ثلاث سنوات يخرج مبارك ونظامه "براءة" ويدخل شباب ثورة 25 يناير من كل الاتجاهات السجون: بعضهم بتهم الإرهاب، وبعضهم بتهم خرق قانون التظاهر، وأكثرهم مشرد في داخل البلاد أو خارجها. أربع سنوات مرت على مصر لامس فيها الشباب كثيرا من أحلامهم بحياة كريمة وحقوق إنسان حقيقية إنما كان الواقع أشد فتكا بهم وبأحلامهم، وكأن نظام مبارك الاستبدادي استكثر على الشباب تلك الأحلام المشروعة. كانت الثورة المضادة أكثر احترافية وتوغلا واتقانا في تشبيك مصالحها مع رجال أعمال مبارك في الداخل ومع الحلفاء الاستراتيجيين والداعمين الإقليميين في الخارج. وكانت الدولة العميقة أكثر عمقا مما تخيل كثير من الحالمين بمستقبل أفضل. وكانت الدولة العميقة أكثر عمقا ممن توهموا أنهم يمكن أن يحكموا دولة مبارك بعقليات تنظيمية خارج أطار الزمن، وكثير منها خرج مصالح الوطن. مصر الثورة قد تحركت في 25 يناير 2011، وقد يتعطل قطار مسيرتها بفعل ألاعيب الثورة المضادة، وتخطيط ومؤامرات الدولة العميقة، لكن يخطئ من يظن أنه يمكن إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، ويخطئ من يظن أن الشباب الذين ذاقوا طعم الحرية يمكن أن يقبلوا طعم الاستبداد الزقوم. مصر الثورة ثارت سلميا على الاستبداد وخرج الناس مع الشباب من كل الطبقات والاتجاهات، خرجت الكتلة الحرجة، وخرج حزب الكنبة وامتلأت الميادين والشوارع بالناس تطالب بمطلب واحد وهو: "ارحل". ولم يكن أكثر الناس تشائما يتوقع أنه بعد أربع سنوات سيخرج نظام مبارك وأكبر أعوانه ويخرجون للناس (ولثورتهم السلمية في 25 يناير)ألسنتهم. الرهان على الحل الأمني لن يوصل إلى شيء. والرهان على القمع سيزيد الأمور تفاقما. وتجاهل أصل الأزمة السياسية في مصر لن يلغيها، ولن يحلها. وأصل الأزمة السياسية متعلق بقضايا الشرعية والمشروعية والحقوق والحريات السياسية، وهي قضايا كلية لا يمكن حلها بالغوغائية الإعلامية، ولا بالأذرع الإعلامية الفاقدة للمصداقية والمهنية وأيضا الاحترام. جاء الحكم على مبارك ووزير داخليته ومعاونيه بالبراءة: ليفجر أصل الأزمة السياسية في مصر. وليوحد بين المختلفين من شباب الثورة. ويواجه الشباب في الميادين مرة أخرى نظام أشد استبدادا من نظام مبارك الذي ثار عليه الناس، واليوم يخرج براءة ويخرج لهم لسانه. عاد الشباب للميادين يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام، ويدور التاريخ دورته، وترجع ثورة يناير لنفس نقطة البداية: اصطفاف كل ألونا الطيف السياسي في مصر. الحد الأدنى من المطالب، أو حتى سياسة المطلب الواحد "ارحل". التظاهر السلمي في الميادين والشوارع في مختلف المحافظات. مصر الثورة قد تكون خسرت بعض الجولات لكنها بالتأكيد لم تخسر الحرب: فمعركة الحرية سجال. ومعركة الحقوق السياسية والإنسانية جولات. وربما يحمل لنا المستقبل ما لا يتوقعه أشد الناس تفاؤلا بالتغيير. مصر الثورة لا زالت معركتها مستمرة مع الثورة المضادة ومن يظن أن المعركة قد حسمت لصالح الثورة المضادة فقد أعظم الفرية على شعب عظيم مثل الشعب المصري، أقول شعب عظيم مهما جارت عليه الأيام، ومهما بهدلته ألاعيب الثورات المضادة، أو خدعته خطط ومؤامرات الدولة العميقة.