الحالة التي تعيشها مصر بعد ثورة يناير حالة ملتبسة مختلطة؛ وضع جديد على غير مثال سابق: 1- ثورة تقوم؛ ويخرج الملايين من الشعب المصري في الشوارع والميادين يهتفون بتغيير النظام ويسقط رأس النظام؛ ثم يظل الثوار الحقيقيون يمارسون جهادهم ونضالهم على شاشات الفضائيات وفي فضاء الإنترنت؛ ويتولى الأمر مجلس عسكري (مع الاحترام) هو من وضع النظام السابق. 2- جماعات كانت ضد الثورة حتى آخر لحظة من عمر رأس النظام السابق؛ يصبحون أكثر المستفيدين من الثورة. حتى من كان يحرّم المظاهرات باعتبارها خروجا على الحاكم الشرعي وينادي بطاعة ولي الامر هو أكثر الناس صخبا واستفادة من الوضع الجديد؛ بل يصيبه داء الاستئثار والإقصاء. 3- جماعات أدمنت اللعب تحت الطاولة كما أدمنت المساومات بحثا عن شرعية مفتقدة أو متوهمة هي من يقود الركب (ويحرك الشارع بعد أن هدأ غبار المعركة) ويقايض مقاعد انتخابية فانية بمستقبل البلد وأهله. في براجماتية واضحة تصل حد الانتهازية الفجة. 4- أحزاب سياسية ورؤساء أحزاب من مخلّفات العهد البائد (نعلم ويعلمون أنهم كانوا يتحركون بأوامر مباشرة من ضباط أمن الدولة) يتصدرون المشهد السياسي وبعضهم جعل من نفسه مطايا ذلول لفلول نظام مبارك وابنه؛ وهذا من نكد الدنيا في السياسية المصرية. اختلاطها والتباسها. 5- إعلام أفسده نظام مبارك؛ إعلام سماسرة (أو ما يطلق عليهم زورًا رجال أعمال) وإعلام أمني بالدرجة الأولى يشكّل الرأي العام ويخلق المعارك الوهمية ويديرها (لحساب من يدفع أو لحساب صاحب المحل) المهم أنه في جملته إعلام لا مبدأ له ولا غاية شريفة؛ يملء شاشاته ظاهرة المتحولين (من كان يطبّل لمبارك أصبح يطبّل للمجلس العسكري) وكأن الحيّات لا تعرف إلا اللدغ. 6- كنيسة قبطية خسر رأسها رهانه على مشروع التوريث؛ ويقيني خبر تلك الأوامر المباشرة للأقباط بعدم المشاركة في الثورة (ومن شارك فيها شارك بصفته الشخصية والوطنية وليس باعتباره مسيحيا أو قبطيا). ثم يخرج نفس هذا الرأس (وأذنابه من دعاة الفتن) ليشعلوا الوطن مرة أخرى؛ ويقسمونه طائفيا؛ ويجيشون وراءهم شباب غذّوه بالتطرف والغلو؛ وجندوه لمشروع شخصي مستحيل (ليس لهم فيه مصلحة كأقلية؛ ولا يخدمهم كديانة). ثم يُترك له الحبل على الغارب يلعب بالوطن كيفما شاء. يحرقه بنيران الفتن ويشعله بغباء التطرف؛ ويهدده بالتدخل الخارجي؛ ويبتزه بقوانين هي لاتفاقات الإذعان أقرب؛ ثم لا يحرك أحد ساكنا بل يخاوفونه كخيفة مبارك أو أشد. ويصرح هو أنه يقول في السرّ ما لا يجرؤ أحد أن يقوله. والحقيقة أنه يقول في السر ويأمر أبتاعه أن يقولوا في العلن. وصدق الأستاذ جمال سلطان حينما قال: إن الكنيسة المصرية هي جزء من فلول نظام مبارك؛ وهي حقيقة لا مراء فيها. وطن يتشرذم ضحية طموح فردي قاتل؛ حلم مستحيل اسمه الدولة القبطية ولا أحد يجرؤ أن يوقفه حتى صرنا نترحم على أيام السادات. 7- حكومة عاجزة ورئيس حكومة أشد عجزا؛ لا يجبرك على احترام قراراته المهترأة والمهزوزة سواء في مواجهة المجلس الحسبي (أقصد العسكري) أو في مواجهة بقايا نظام مبارك وفلوله. ثم يبدي رغبة جامحة في التمسك بالسلطة ويحنث بوعده الذي قطعه على نفسه في ميدان التحرير (يوم أن حُمل على الأعناق): إن لم ينفذ مطالب الثورة فسيعود للميدان؛ لكنه خيب أملنا فيه؛ وتشبث بالسلطة حتى آخر رمق. وهل لا زال هناك رمق؟ 8- شعب قام بالثورة وانصرف إلى حال سبيله؛ تلهيه مطالب فئوية وظروف صعبة بعضها حقيقي وبعضها مفتعل؛ ثار على النظام ليخلع رأسه ويبقى جسده يحكمنا بأشكال أخرى. فلا ضمانات على مستقبل أكثر إشراقا؛ ولا رؤية لواقع أكثر وضوحا؛ ولا أمل حقيقي في تغيير جذري يساوي ما بذل في سبيله من دماء؛ وما قدم من أجله من تضحيات. 9- شباب يتشبثون بحلم (يظنه البعض مستحيلا كما كانوا يظنون خلع مبارك أشد استحالة) هو حلم ممكن تحقيقه لو أصبح الجميع (أو الأغلب على الأقل) على مستوى اللحظة التاريخية؛ وعادت تحكم الحركة السياسية في مصر روح (وأخلاق) ميدان التحرير: فلا طمع في نصيب الأسد من المقاعد البرلمانية؛ ولا إقصاء للآخرين؛ ولا تنابذ بالألقاب والتيارات ولا مساومات مع حكومات مستبدة (أو مجلس حسبي) من تحت الطاولة؛ واتفاق على الحد المشترك من المطالب: حرية – ديمقراطية – عدالة اجتماعية. من خرج يوم 25 يناير لم يكن مدركا أنه يكتب التاريخ ويعيد تشكيل الجغرافية السياسية للمنطقة؛ وهكذا اليوم من يثبت على حلمه في ثورة حقيقية؛ ثورة كاملة الأوصاف والمعالم؛ لا تثور على رأس النظام ليرحل وتظل بقية منظومته تحكمنا. 10- أمل لا زال يغمر النفوس؛ ويقين أن الله الذي كتب لهذه الأمة صفحة كرامة وفخار (بعد أن كانت على شفا التوريث) لن يتركها ليحكمها الاستبداد مرة أخرى. والله غالب على أمره.