جاء حكم المحكمة الدستورية الليبية "المحكمة العليا الدائرة الدستورية" ببطلان برلمان طبرق كالصاعقة على رؤوس كثيرة ، داخل ليبيا وخارجها ، طالما راهنت على "اختطاف" ثورة الشعب الليبي بالمال الإماراتي المتحالف مع فلول نظام القذافي عندما اختطفوا مقاعد البرلمان في ظروف استثنائية وبضخ أموال "قارونية" لقبائل وعشائر ليبية وشخصيات نافذة ، وراهنت دول إقليمية كبرى ، منها مصر ، على قوات اللواء خليفة حفتر بوصفها القوات التي وصفها البرلمان الليبي "المنتخب" بأنه هي التي تمثل الشرعية وتنضوي الآن تحت لواء الجيش الوطني الليبي ، رغم أن البرلمان نفسه كان يصفه حفتر قبل أشهر بأنه خارج عن الشرعية ، لكن للانتهازية أحكام !، وسارعت مصر بإبرام اتفاقيات عسكرية وغيرها مع حكومة "طبرق" المنبثقة عن هذا البرلمان ، وقد حذرت في هذا المكان وفي مقال سابق من أن هذه مخاطرة كبيرة ، لأن البرلمان مطعون في شرعيته ، وهناك قضية منظورة أمام المحكمة الدستورية ، وقد تنتهي لبطلان شرعيته بسبب أنه انعقد في طبرق وليس في المقر الدستوري له وهو مدينة بنغازي ، لكن كان واضحا أن هناك حالة اندفاع وتسابق من أجل اقتحام المشهد الليبي على خلفية القلق من تنامي نفوذ الكتائب الثورية الإسلامية في بنغازي والشرق ، رغم أن كون الكتائب الثورية إسلامية الطابع هو حالة طبيعية لمن يعرف الواقع الليبي المتدين والمجتمع الليبي المحافظ في مجمله والمتماسك دينيا ، وأما المجموعة المتشددة فهي صغيرة وهامشية ولا تمثل عموم كتائب الثورة ، ولذلك جاء حكم المحكمة الدستورية الليبية ليحيل كل ما فعلته مصر حتى الآن في ليبيا إلى رماد وغثاء لا قيمة له ولا شرعية له ، لأن المحكمة أبطلت شرعية انعقاد البرلمان وشرعية كل ما تمخض عنه من أعمال ، وطبيعي أن الحكومة نفسها حكومة الثني باطلة ، وأي اتفاقات أو قرارات اتخذها البرلمان أو الحكومة باطلة ، لأن ما بني على باطل هو باطل بداهة . المفاجأة في حكمة المحكمة العليا الليبية ليس في أنها أبطلت انعقاد البرلمان في طبرق ، بل إنها ذهبت إلى أن القانون الذي أجريت على ضوئه انتخابات البرلمان غير دستوري ، وبالتالي كان البرلمان الذي تمخض عن هذه الانتخابات غير دستوري ، أي باطل ، وكانت "عصابة" محمود جبريل وعلي زيدان وأحمد قذاف الدم وحلفاؤهم الكبار في أبو ظبي يتحصنون بأنهم يمتلكون "الشرعية" والبرلمان المنتخب ، كما كان المجتمع الدولي في مجمله مضطرا للتعامل مع هذه الوضعية "الشرعية" رغم أنها مخالفة لما هو واقع على الأرض في معظم التراب الليبي ، ورغم أن هذا البرلمان من أول يوم وقد أشعل ليبيا حربا واستعدى كل قوى الثورة ضده وحرض هو ضدها ووصمها بالإرهاب وطلب تدخل الدول الإقليمية لضرب أبناء ليبيا وارتكب حماقات اضطرت الوسطاء الدوليين إلى الاعتراف بأن البرلمان لا يمثل عموم الليبيين وهذه معضلة حقيقية ، ومع وضوح أنه برلمان انقلابي ومدمر لليبيا ، إلا أن العقدة كلها كانت في تمسح البعض في أنه "شرعي ومنتخب" ، المحكمة أنهت هذا الاشتباك ، وأزالت كل الالتباس ، وقضت بأن البرلمان غير شرعي ، وهذا ما أنقذ ليبيا من الدماء ، وعصمها من التدخلات الإقليمية المروعة التي كانت توشك على جعل ليبيا على أبواب انقسام جغرافي وقبلي . الحكم من الناحية العملية يحفظ للمؤتمر الوطني ، برلمان الثورة المنتخب الأول ، شرعيته لقيادة البلاد في المرحلة الانتقالية ، باعتباره المؤسسة الشرعية الوحيدة المنتخبة والقائمة في ليبيا ، وبالتالي الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا الآن هي حكومة "عمر الحاسي" في طرابلس ، والجيش الوطني الشرعي الوحيد في ليبيا هي القوات التي تأتمر بأمر تلك الحكومة الشرعية ، ويدخل ضمنها كافة كتائب الثورة في طرابلسوبنغازي وغيرها من مدن ليبيا ، وأصبح خليفة حفتر وميليشياته الآن في العراء ، لا شرعية لها ، هي مجموعات خارجة على الشرعية ، وكل من يتحالف معها له ذات الصفة ، وأصبح يتوجب على العالم الخارجي أن يتعامل مع الجهة الشرعية الوحيدة في ليبيا وهي حكومة عمر الحاسي الممثلة للبرلمان المنتخب غير المطعون في شرعيته "المؤتمر الوطني" لحين إجراء انتخابات برلمانية جديدة ، وأي تدخل خارجي أو تعامل مع قوى أو ميليشيات أو شخصيات خارج إطار الشرعية الجديدة هو تدخل سافر وغير شرعي في شؤون ليبيا واعتداء على سيادتها ، تلك كلها بديهات سياسية ودستورية الآن . الحكم ، الصاعقة ، أعاد تصويب المسار ، وحمي الثورة الليبية من الاختطاف ، وكسر شوكة الانقلابيين ، وأكد على شرعية كتائب الثورة التي ضحت بأرواحها ودمائها طويلا في نضالها المرير ضد الطاغية القذافي حتى أسقطوه هو وعصابة أولاده وأجهزة أمنه الإرهابية العديدة ، قبل أن يأتي انقلابيون متحالفون مع فلول القذافي ليخطفوا ليبيا ويحاولوا إعادتها إلى نظام الطاغية بدون شخصية الطاغية . حفظ الله ليبيا وثورتها وشعبها ، وبارك الله في تلك السواعد الجسورة التي أوقفت غارات الانقلابيين وفلول القذافي ، وأرجو أن يوفق الله كل المخلصين من أبنائها في الوصول إلى صيغة توافقية للمستقبل تقطع الطريق على الانقلابيين ، وتقطع الطريق على المتربصين بثورة أحفاد المختار في المحيط الإقليمي ، وتحفظ وحدة التراب الليبي ، وتحفظ السلام والأمن والرخاء لجميع الليبيين .