وسط هتاف واحتفاء شديد وحب وتقدير لشخصية الدكتور عصام شرف من المعتصمين في ميدان التحرير تم إصباغ الشرعية عليه ليكون أول رئيس وزراء باختيار الشعب. هكذا بدت الصورة لرائيها ممن يعرفون (شرف) شخصيا وممن يجهلونه ولم يسمعوا عنه إلا يوم تنصيبه، وكل معلوماتهم عن شخصيته وميوله وفكره وعقيدته هو تقرير أعدته قناة الجزيرة الإخبارية إبان تسلم شرف المهمة وسط صخب جماهيري أبهر عيون العالم أجمع. شرف وعد جموع التحرير بالاستقالة والعودة على صفوف الجماهير وتبني مطالبهم إن هو عجز عن تحقيقها من خلال منصبه، وما وعد به شرف وسام شرف على جبين كل شريف. وعلى حكومة شرف والمجلس العسكري أن يعلما أن مهمتهما مرحلية متمثلة في إزجاء سفينة الوطن بسلام في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأمة نحو شاطئ الحكم المدني الديمقراطي الذي ستفرزه الأغلبية عبر الصناديق، تلك الأغلبية التي لم تكتحل عيونها يوما بالنظر إلى وجه مسئول مألوف محبوب نصبته بنفسها ووضعت بين يديه مقدراتها ومصائرها عن رضا وقناعة وثقة في حسن القصد والتوجه إلا الدكتور عصام شرف. وقد كان ظني بعد رحيل شفيق وبعد أن آلت الأمور إلى شرف أن يستتب الأمن وتسود روح التعاون بين الفصائل والتيارات والعوام والخواص ونبدأ العمل من أجل الخروج من المنحنى الصعب الذي نمر به؛ وذلك لاعتقادي أن شرف سيتخذ بطانة لها رصيد شعبي تعينه على تحقيق ذلك، فتقيم القصاص وتسوس الناس بما يناسب المرحلة الثورية، ولكن ما حدث عكس ذلك، بدليل أن الحكومة قاطبة تخلو من ممثل واحد للتيار الإسلامي بفصائله، مع العلم التام أن التيار الإسلامي يمثل القاعدة الشعبية العريضة في المجتمع وعنده الكوادر المهنية والكفاءات العلمية في شتى المجالات. ففي مجلس وزراء شرف الماركسي والليبرالي والشيوعي وحتى فلول النظام، مع علم الناس جميعا بسجله الضارب في الفساد، ومعلوم أن الراعي يعرف ببطانته. في حكومة شرف يبرك الجمل في منصب لا ينتفع منه الشعب، ولا حاجة إليه، ويتحدى بأنه وتد لا يمكن قلعه، والأغرب من ذلك تقدمه باستقالته فيقبلها شرف ويرفضها المجلس العسكري، لماذا؟! لا ندري! لعل الجمل يقوم بدور حيوي لا نطلع عليه نحن. فالرجل تقدم باقتراح مكتوب لتعديل بعض مواد للدكتور زكريا عزمي بصفته أميناً عاماً لرئاسة الجمهورية، ليتكرم برفعها إلى مقام الرئيس مبارك، شفاه الله وعافاه –هكذا قوله- واعتبر المادة الثانية سبب رئيس للفتن والاحتقانات الطائفية. وهو يدين بدين الحب، وينزعج من أصوات الأذان والصلوات في مكبرات الصوت –مع علمه أن المصريين في سائر القرى والنجوع بل والمدن لا يستطيعون النوم من ضجيج فرق الشوارع الذي يبدأ من العشاء وينتهي قيل الفجر مع الخمور والبانجو ولا تعليق على هذه المهزلة اللا أخلاقية المستمرة حتى بعد الثورة في بلاد المسلمين- أصوات المآذن في الفجر منفرة للجمل، ويقول في مقال له: هل يتصور أحد أن هناك أكثر من فضائية، تبث علي الناس، ولا يظهر فيها إلا وجوه عليها غضب -والعياذ بالله- ولا تعرف إلا النذير والشر المستطير وعذاب القبر والثعبان الأقرع؟. ويقول: أنا أتصور أن النخب المصرية تخوض معركة تحرير حقيقية -ليست ضد فلول النظام السابق طبعا، فهؤلاء أصدقاؤه يدعو للعفو عنهم- وإنما ضد التخلف العقلي والسلفية الدينية فهما –على حد قوله- صنوان يهددان كل منجزات الجغرافيا والتاريخ وكل المعاني السامية. ويقبل الجمل يد البابا شنودة ويسأله الدعاء تماما كما فعل ساويرس مع الشيخ شيخ الأزهر، ثم بعدها يسب الجمل الإسلام والمسيحية على السواء أثناء حديثه عن الدولة المدنية، ويرسم ساويرس الصور المسيئة ليلعب على وتر الفتنة وينفخ في الرماد، ولوجه الشبه الشديد بينهما يقول الجمل مادحا ساويرس: "من لا يُقدر المهندس نجيب ساويرس، الذي يعتبر من أغنياء العالم، والذي لم يشتهر عنه فساد أو إفساد، والذي أقام مؤسسة خيرية ثقافية تأخذ بيد الناشئين من الأدباء وتقدم لهم جوائز قيّمة، ذلك فضلاً عن إسهامه الواضح في الاقتصاد المصري بل الإقليمي، وقد أقول العالمي، نجيب ساويرس وعائلته يستحقون كل الاحترام والتقدير". الجمل سخر وتهكم على الذات الإلهية، وعمل على الدعوة إلى حوار وطني تعمد فيه إقصاء كل الإسلاميين، ودعا إليه رموزًا للحزب الوطني ودعا إلى المصالحة معهم، ودعا على الانقلاب على إرادة الشعب متمثلة في استفتاء 19 مارس، ودفع عصام شرف للتصريح بتأجيل الانتخابات، وطالب ببقاء الجيش، وخرج بتصريحات إعلامية دون إعداد أو دراسة. ومع كل ذلك لم يستطع شرف إقالته لا هو ولا غيره من الوجوه الكالحة. ولن يستطيع. ففي حكومة شرف إذا سرق الضعيف نصبت له المحاكم العسكرية وطبقت عليه الأحكام العرفية، وإذا سرق فيهم الشريف أخلوا صراحة؛ لعدم وجود الأدلة الكافية لإدانته. وفي حكومة شرف تحول أمن الدولة إلى الأمن الوطني تكريما لهم على جرائمهم السابقة، وتقاعس ضباط الداخلية عن العمل فسيقت إليهم رواتبهم إلى بيوتهم، ومنهم من يعمل في الداخلية صباحا ويمثل متهما أمام القاضي مساء. وفي حكومة شرف يتحصن المتهمون بحصانة شعبية زائفة مغفلة حتى لا تطالهم يد القانون، فحسن حمدي وياسين منصور في حماية لفيف من متطرفي جمهور النادي الأحمر، وساويرس في حماية لفيف من متطرفي شعب الكنيسة، ولعل هذه الحماية هي التي سعى إليها يحيى الكومي وأصدقاؤه منذ شهرين؛ حيث طلبوا تولي زمام أمور الدراويش والإنفاق عليه؛ ليتخذوا من جمهور الكرة حصنا منيعا ضد الكسب غير المشروع. كل ذلك وأكثر منه يجعلنا لا نتعجب إذا شاعت الفوضى الخلاقة في ظل حكم انتقالي أولى أولوياته العبور بسفينة الوطن إلى بر الأمان، فبطانة شرف وخيارات المجلس العسكري أشبه بما ذكره شوقي أمير الشعراء في قصة الليث ملك القفار، حيث قال: اللَّيثُ مَلْكُ القِفارِ وما تضمُّ الصًّحاري سَعت إليه الرعايا يوماً بكلِّ انكسار قالت: تعيشُ وتبقى يا داميَ الأَظفار ماتَ الوزيرُ فمنْ ذا يَسوسُ أَمرَ الضَّواري؟ قال: الحمارُ وزيري قضى بهذا اختياري فاستضحكت، ثم قالت: "ماذا رأَى في الحِمارِ؟" وخلَّفتهُ، وطارت بمضحكِ الأخبار حتى إذا الشَّهْرُ ولَّى كليْلةٍ أَو نَهار لم يَشعُرِ اللَّيثُ إلا ومُلكُهُ في دَمار القردُ عندَ اليمين والكلبُ عند اليسار والقِطُّ بين يديه يلهو بعظمةِ فار! فقال: من في جدودي مثلي عديمُ الوقار؟! أينَ اقتداري وبطشي وهَيْبتي واعتباري؟! فجاءَهُ القردُ سرّا وقال بعدَ اعتذار: يا عاليَ الجاه فينا كن عاليَ الأنظار رأَيُ الرعِيَّةِ فيكم من رأيكم في الحمار! بقلم/ د. شريف عبد اللطيف [email protected]