إنَّ خلق التغافل مُنْسِيّ ٌبيننا رغم أنه ُخلقٌ مُريح مُسْعِد ! ورغم أنَّ ربنا قد أوصانا به كثيرا لفوائده المُسْعِدَة ! فيقول تعالي علي سبيل المثال لا الحصر ممتدحا إياه : ” خذ العفو وأمر بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين ” ( الأعراف : 199 ) يقول الإمام السعدي في تفسيره للآية الكريمة : ” .. هذه الآية جامعة لحُسْن الخلق مع الناس .. أن يأخذ العفو : أي ما سَمَحَت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم ، بل يشكر من كلّ أحد ٍما قابله به من قول ٍأو فعل ٍجميل ٍأو ما هو دون ذلك ، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغضّ طرفه عن نقصهم .. بل يُعامِل الجميع باللطف والمقابَلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم . ( وأمُر بالعرف ) أي بكل قول ٍحسن ٍوفعل ٍجميل ٍوُخلق ٍكامل ٍللقريب والبعيد … وأمَرَ الله تعالي أن يُقابَل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله ، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه ومَن حرمك لا تحرمه ومن قطعك فصِله ومن ظلمك فاعدِل فيه .. ” ويقول الإمام البغوي في تفسيره : ” .. مثل قبول الاعتذار والعفو والمُساهَلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .. “ إنَّ خلق التغاُفل يعني غضّ النظر والتجاوُز والتسامُح عن بعض الأخطاء والسلبيات ، فلا تدقيق وتحليل وترصّد للسوء في كل كلمة ٍوأي تصرّف ، كما يقول تعالي موصيا ومنبّها لخُلق ٍكريم ٍمن أخلاق الرسول (صلى الله عليه وسلم) لنقتدي به ونفعل مثله : ” .. وأعْرَضَ عن بعض .. ” ( التحريم : 3 ) والذي قال فيه الإمام الآلوسي في تفسيره : ” … دلالة علي أنه يَحْسُن … التلطفّ في العَتَب والإعراض عن استقصاء الذنب .. ” ، وليس هذا بالتأكيد تسطيحا للأمور وتبسيطا ! وإنما هو في عُمْقها وصَميمها ! لأنه يُعطِي فرصة للمُخطِيء لكي يُصَوِّبَ هو نفسه بنفسه ، بعقله وإرادته ، فيكون هذا أستر له بعدم فضحه أو تغيير صورته الجيدة لدي الآخرين وأكثر تشجيعا للتقويم ، فيسعد الجميع ، المُخطِيء بالتصحيح ، ومَنْ حوله بإحسانه وبألا َّيفعلوا خطأه ، كما يُفهَم ضمنا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : ” .. ومَنْ سَتَرَ مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة .. ” ( جزء من حديث رواه البخاري ) ، ومن قوله : ” إنَّ الله رفيق يحب الرفق ويُعطي علي الرفق ما لا يُعطي علي العنف وما لا يُعطِي علي سواه ” ( رواه مسلم ) فكثير من المشاكل في حياتنا يمكن أن تختفي نهائيا،وكثير من النيران التي تشتعل في بيوتنا يمكن أن تنطفيء،وكثير من الخلافات والصراعات الحادة في مجتمعاتنا يمكن أن تزول بعلاج واحد،وخلق فريد ألا وهو خلق التغافل. ونعني به تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور . وقد عظم السلف من قدر هذا الخلق العظيم،لمعرفتهم بأنه الحل السحري لأدواء المجتمع الإنساني. من ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل" والحسن البصري يقول: "ما زال التغافل من فعل الكرام" وقيل : ما استقصى كريم قط . ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي ولا أعلم لماذا نملأ حياتنا بتتبع الأخطاء والإصرار على مناقشتها ونفقد بذلك دقائق وساعات بل ربما أيام نناقش ونغضب وعندما نتسامح تبدأ الذكرى ونتذكر تلك اللحظات المؤلمة ومالنا لا نتذكر؟ وقد سمحنا لتلك الأخطاء ان تتخذ لها مكانا في ذاكرتنا بمناقشتها والبحث في ثناياها وذهبت أيامنا كلها حزنا في حزن لو أمعنا النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -: "وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة"
قال أولياء الله المتقين فما بالنا ببقية الناس؟ يتتبع الأب أخطاء ابنه ليرهقه بكثرة المعاقبة وكان هذا الابن ولد متعلما بل وكأن هذا الأب لم يأمر بتربية أبناءه وأي تربية هذه التي تجعل من العقاب الخطوة الأولى ومن التعليم الخطوة الثانية؟ وأي نفس تتقبل النصح بعد العتاب وربما التهزئ أو التجريح؟ فينشأ الطفل محملا بالجروح والاهانات وتنعدم سبل التواصل بينه وبين والديه هذا هو الحال مع أب وابنه أو أم وابنتها فكيف سيكون الحال بين زوج و زوجته؟ الزوج اختار زوجته وهو يحلم بان تكون مثالية للغاية وينتظر ان تفعل له ما يريد وان تقوم بما يحب وكأنها تعلم بما في نفسه أو خلقها الله شاذة عن الخلق الذين جبلوا على الخطأ وما ان يعاشرها الا وتبدأ المشاكل والسبب لماذا فعلتي هذا؟ ولماذا لم تقولي هذا؟ فيموت في نفس الزوجة الطموح لإرضاء زوجها والسعي لإسعاده والسبب كثرة الانتقاد والمحاسبة وقلة التشجيع ما ينطبق على الزوج ينطبق على الزوجة كذلك ان التغافل عن الأخطاء ليس تأكيدا للخطأ أو عدم اهتمام بل ليس سذاجة ولا غباء ولا ضعف بل هو الحكمة بعينها وقال عثمان بن زائدة، قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: "العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل " نعم والله انه العافية بعينها لأن الناس جبلوا على الخطأ ومن الغباء والحماقة ان ننتظر من الناس ان يفعلوا ما نريد أو ان يقولوا ما نريد بل يجب ان نتعامل مع الناس معاملة واقعية مرنه تأخذ في حسبانها طبيعة الناس التي جبلت وتعودت على الخطأ لذلك الإيمان بأن كل بنو آدم خطاء يقتضي ان نتغافل عن تلك الأخطاء مالم تجر مفاسد مذاهب الناس في الخطأ مختلفة
ولكن مهما ابتعدت أو اقتربت
اجعل من نفسك أعمى واصم
وتغافل عن الخطأ ولا تفكر في الوقوف عند الخطأ وتعاتب فان كثرة العتاب تنفر وتفرق ولا تنسى ان تلتمس العذر وتحسن الظن وتقبل الاعتذار
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً"
قال الإمام ابن القيم: "من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله.. ".
ثم قال: "وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجَّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك".
قال الإمام الشافعي: "الكيس العاقل؛ هو الفطن المتغافل"