لا يوجدُ إعلامٌ ولا إعلاميٌ مؤيدٌ لخلافة التنظيم المعروف اختصاراً ب "داعش"، باستثناء موقعَيْنِ على فيس بوك وتويتر ينطقان باسم داعش، ويصعب التحقق من صحة نسبتهما لها، وأغلب محتوياتهما يسيء للدولة الإسلامية وخليفتها "أبو بكر البغدادي". الموجود المؤكد فقط هو الإعلام المناهض لهذا التنظيم ولخلافته ولخليفته في آن واحد. وهذا لغز كبير يحتاج إلى حل؛ خاصة وقد نجح هذا الإعلام المناهض في أن يضع مفهوم "الخلافة" على قمة أولويات الأجندات الإعلامية المحلية والعالمية بصورة بالغة السوء والقبح. كما نجح هذا الإعلام في وقت قصير أن يبعث الجدالات حول هذا المفهوم بأعماقه التاريخية وامتدادته الواقعية والمستقبلية على ألسنة النخب الفكرية والسياسية في مختلف بلدان العالم الإسلامي؛ بل وفي عواصم صنع القرار وتدبير شئون العالم مثل: واشنطن، ولندن، وباريس، وبرلين. وكلها جدالات تدور في بؤرة واحدة لا تغادرها؛ وهي أن "خلافة" و"الشر" المطلق صنوان لا يفترقان، وأن الدليل على ذلك هو ما تنشره تلك الوسائل الإعلامية عن جرائم جيوش داعش الجرارة!. وإذا كانت أعمال القتل والذبح والتدمير صحيحة في نسبتها لهذا لخلافة السيد البغدادي كما تقول لنا وسائل الإعلام العالمية والمحلية، فإنها تسيئ أبلغ الإساءة إلى الإسلام، وتشوه صورة المسلمين في العالمين. ومن هذه النقطة بالتحديد يبدأ شكنا في حقيقة "داعش" وفي دعواها إقامة "الخلافة". إذ لا يُعقل أن يغفلَ قادة هذا التنظيم عن أهمية الإعلام في كسب المعارك، وفي كسبِ قلوب الناس قبل ذلك، وربطهم عاطفياً ووجدانياً بتنظيمهم وخلافتهم، وتحبيبِها إليهم، وحشد التأييد لأهدافهم وجمع المساعدات اللازمة لتمويل حملاتهم. أما وأنه لا توجد لهذا التنظيم حتى الآن مؤسساتٌ إعلامية خاصة، أو متعاطفة معه وتقوم بهذه المهمة؛ فليس أمامنا فرصةٌ للشك في أن هذا التنظيمَ صناعةٌ أجنبية لنشر الفوضى في بلاد المسلمين، ولطعن الإسلام في أصوله الكبرى، وليس فقط للنيل من المسلمين أو التحكم في مصائرهم. وقد قلت مرة: أن صحة نسبة هذه الفظائع إلى داعش؛ تعني أن ما يدعونه من "خلافة" ليس سوى "رئاسة عامة في شئون الدين والدنيا لتدمير مجتمعات الأمة الإسلامية نيابة عن البيت البيض، والإليزيه، ودواننج ستريت، والبوندستاج"، وليس "نيابة عن صاحب الشرع" كما جاء في كتب السلف في معرض تعريف "الخلافة". من الفظائع التي نسبتها وسائل الإعلام إلى "خلافة" داعش أنها: هجَّرت مسيحيين عراقيين قسراً عنهم إلى خارجِ ديارهم، وأنها قتلت منهم من قتلت، وسلبت أموالهم، وسَبَتْ نساءَ اليزيديين وباعتهم في الأسواق(كشف بعضهم بعد ذلك أن صور النسوة المنشورة على أنهن يبعن في سوقِ النخاسةِ مأخوذة من أحد الأفلام السينمائية)، وأنها نحرت صحفيين أجانبَ في مشاهد مصورة ومبثوثة في الفضاءات الإعلاميةِ العالمية، وأنها تفرضُ إتاواتٍ على الأهالي حيثما حلت، وتجبرهم على ما يكرهون. ولو صحَّ شيءٌ من هذا فمعناه أن دواعشَ الخلافةِ المزعومة لا علمَ لهم بأدنى أصول الاجتماع السياسي للأمة الإسلامية: ومن ذلك أن تعدد الملل والنحل والأديان والمذاهب والأعراق والثقافات واللغات كلها من أبسط أصول تكوين هذه "الأمة الإسلامية". الدواعشُ وأمثالُهم يجهلون أن لحظة القضاء على هذا التنوع والتعدد؛ بما فيه التعدد الديني؛ هي نفسها لحظة زوال معنى "الأمة الإسلامية" من الوجود؛ إذ لا تكون "الأمة" إسلامية بحق إلا إذا تعايش في ظلها المسلم والمسيحي واليهودي وغير ذي الملة براحة تامة مادام مسالماً ومحترماً النظام العام على قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، مع الالتزام بإرادة العيشِ المشترك، والإسهام في تحقيق المصلحة الاجتماعية؛ فإن هو فعل ذلك؛ فليس لكائن من كانَ أن ينتقص حقاً من حقوقه، أو يجبرَه على ما يكره تحت أي دعوى من الدعاوى. ومن المدهش حقاً أن وسائل الإعلام المحلية والعالمية لا تبذل جهداً عقلانياً في مناقشة التناقضات المفضوحة في قصة هذا التنظيم. لم يتساءل أحدُهم مثلاً: كم عمر داعش حتى يفعل كل هذا ويقوى كل هذه القوة؟. ومن ذا الذي سك هذا الاختصار "داعش" بهذه الاحترافية التي تجعل كل من يسمع هذه الكلمة يتأذى منها، ويحمل شحنة ذهنية مرعبة وباعثة على الخوف والتوتر؟. ومن أين لداعش بهذه الآليات العسكرية والأسلحة بالغة التطور؟، ومَا الجهاتُ التي تشتري من الخلافة الداعشية النفطَ الذي سيطرت على آباره في شمال العراق مثلاً؟. وكيف يتأتى لها أن تستجلب مهندسين وخبراء في استخراج النفط وتصديره واستيفاء ثمنه؟ وهل لدى داعش "بنكٌ مركزيٌ" يقوم بعمل مقاصات دولية لتحصيل ثمن النفط؟ أم أن "مندوبَ أو صرافَ " داعش يقوم بتحصيل الأثمان عداً ونقداً في أجولة مثلا، ثم يقوم بحملها إلى "بيت مال الخلافة" على ظهور البغال والحمير، ثم يتم التسليم والتسلم لأمين بيت المال، ومن ثم يأمر هو بعمليات الرص والتستيف، والحفظ والصون؟. وأين موقع مخازن بيت مال الخلافة ومخازن سلاحها وخطوط إمدادها؟ وأين هي سجلات الوارد والصادرِ وأسماء وعناوين "عمال الخليفة" في الجهات والنواحي المختلفة التي تغطي مساحة تعادل مساحة بريطانيا؟. وهل هناك ميزانية يعتمدها "الخليفة"، أم كيف يتم تصريف شئونِ "الرعيةِ" التي يزيد عددها ما دامت الخلافة "باقية وتتمدد" كما يقول شعارهم الشهير؟، أم أن هذا كلهَ هراءٌ وأن وراء الأكمة ما وراءها!. هذه الأسئلة، وغيرها عشرات الأسئلة، لا محلَّ لها في البرامج التي تملأ الفضاءات الإعلامية عبر العالم عن "الخلافةِ" التي أقامتها "داعش". فقط هناك تركيز بالغ الشدة على فكرة مركزية واحدة هي أن داعش أسست "خلافة إسلامية"، وصار لها خليفةٌ اسمه أبوبكر البغدادي. وبما أن الخلافة قامت قائمتُها، وبعثتها داعش من مرقدِها؛ فها هي ترونها كما يقول الإعلام الدولي والمحلي تستأنفُ ممارسةَ مهماتِها المقدسةَ في القتلِ والذبح والسلبِ والسبي...إلخ. هذه هي الرسالة التي تصلنا ليل نهار عبر وسائل الإعلام والفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي؛ ومن كثرة الاستماع إلى هذه الرسالة ومشاهدة صورها تصبحُ أمنيةُ كل عربي وكل مسلم؛ بل وكلُ إنسان حرٍ على وجه الأرض هي أن تتفضلَ أمريكا وحلفاؤها وحتى بلاد واق الواق بتشكيل تحالف دولي (شمل حتى الآن خمسين دولة) لمواجهة "خلافة داعش" ووأدِها في مهدِها؛ وإلا فإنها ستصلُ إلى أوربا وأمريكا في عقر دارها فيما لا يزيد عن شهرٍ واحد كما نصحهم أحدهم. هب أنَّ "خلافة داعش" صناعة محلية، وأنها تمتلك هذه القوة العسكرية والتنظيمية المخيفة من عرق جبين مقاتليها؛ لكن: لماذا لا نفكر بعقلنا ونسألُ أنفسَنا؛ كيف فاتَ على صناع القرار "الخلافي"(من الخلافة) أن يفطنوا إلى أهميةِ الإعلام في بناء خلافتهم، ودحضِ الحملات الإعلامية التي تشوههم؟ ولا تقل لي: إن الدواعش ينتمون إلى عصور غابرة، ولا يهتمون بالتقدم ولا يعترفون بمنجزات العلم الحديث؛ لأنهم كما رأيت يمتلكون أحدث أنواع الأسلحة، ولديهم قدرات تنظيمية وتعبوية هائلة؛ وكلُها من منجزات التقدم والثورة العلمية . ثم كيف فاتَهم أن ينشئوا فضائية، أو يشتروا صحفاً تروج لهم وتشيد بأعمالهم وتقلبُ فظائِعهم إلى إنجازات، وتصور جرائِمَهم في صورة بطولات، وتقنع الناس بأن الدماء المهراقة بغير حق ليست سوى شربات الفرح والنجاح؛ تماماً كما يفعلُ كثيرون من طغاة الحكام في كل زمان ومكان؟. وهل يعقل أن تتركَ "خلافةَ داعش" وسائلَ الإعلامَ العالمية والإقليميةَ لتتولى هي "الإعلام" عنهم، والتعريفَ بهم بهذه الصورة البشعة المنفرة؛ إلا إن كانت المسألةُ مرتبةً ومتفقاً عليها!؟. هل رأيتم خلافة أو دولة ولو في حجم "أندورا" لها جيش فتاكٌ يمتد خطرُه لأوربا وأمريكا ثم لا يكون لها وزارة إعلام ملاكي أو جهاز دعاية محترفٍ يتغنى بأمجاد الخلافة ويزينها في عيون الناظرين؟. هل هذا معقول أو مقبول في الحس السليم والعقل المجرد؟ أليس في هذا وحده دليل دامغ على أن في الأمر شيئاً غامضاً ومريباً؟. في كتابه"القاعدةُ: الصعودُ والأفول" الصادرِ عن مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت: سنة 2012) يذكر فواز جرجس أن هناك 1271 منظمة حكومية و200 شركة خاصة تعمل على مكافحةِ الإرهاب الدولي، وأن هذه المراكز تنشط وتبث رسائلها وأخبارها في 10.000 (عشرة آلاف) موقع إلكتروني في الولاياتالمتحدة وحدها، ويعمل فيها 854000(ثمانمائة وأربعة وخمسون ألف) شخص، وكلهم يعملون على إنتاج صورة مرسومة عن القاعدة وداعش بهدف واحد هو "شيطنة" الإسلام والمسلمين، ومحاولة تطويع الجاليات المسلمة في الغرب لخدمة السياسة الخارجية للبلدان التي يعيشون فيها، وإلا اتهمتهم السلطاتُ بالإرهاب!. هل يعقل أن يكون حل هذا اللغز هو أن الإعلام هو "الفريضة الغائبة" في خلافةِ داعش؟. ولكن: هل شراء الأسلحة والمتفجرات أسهل من شراء إعلامٍ مؤيد وإعلاميين مهللين مؤيدين للخلافة والخليفة؟. ألا يحق لنا أن نقول بعدَ هذا كله: إن المقصودَ هو النيل من "الإسلام" ذاته، وتلطيخ اسم "الخلافة" وتاريخها بكل هذه الشناعات والفظائع، ومن ثم قطع الطريق على عودة "الخلافة على منهاج النبوة" بقيمها النبيلة، وأهدافها الإنسانية التي بشر بها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؟!.