السياسة.. أصبحت حديث المواطن المصرى البسيط قبل المثقف، وأصبحت هى المتنفس الحقيقى للتعبير عن آراء المواطنين، فلا حديث فى القهاوى أو فى الأماكن العامة أو حتى فى وسائل المواصلات إلا فى السياسة، فالكل مهتم حاليًا بالحديث فى السياسة، وبالرغم من هذا الانفتاح الديمقراطى، إلا أنه توجد شريحة فى الدولة على قوائم الممنوعين من الحديث فى السياسة، على رأسهم خطباء المساجد، حيث حذّرت وزارة الأوقاف الخطباء والأئمة من الحديث فى السياسة أثناء إلقاء الخطب وهددت بمعاقبة من يخالف هذا القرار بالفصل أو الغرامة. كما أعلن محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، أن الوزارة لن تتراجع عن قرار وقف بث شعائر صلاة الفجر بمكبرات الصوت، مشيرًا إلى أن المخالفين للقرار من العاملين بالمساجد سيخضعون لعقوبة الخصم شهرًا من الراتب، فضلًا عن التحويل للتحقيق. كما حذر جمعة، الحجاج، من رفع أى شعارات سياسية خلال الحج، مشيرًا إلى أنه سيتم ترحيل أى مخالف ومحاكمته عند العودة إلى مصر. ولم يقتصر فقط عدم الحديث فى السياسة على الأئمة والحجاج، بل شملت القائمة أيضًا طلاب الجامعات، حيث حذر الدكتور السيد عبد الخالق وزير التعليم العالى من ممارسة العمل الحزبى داخل الجامعة، سواء كان طالبًا أو عضو هيئة تدريس، مؤكدًا أن الفصل من العمل أو الدراسة هو الإجراء القانونى المباشر الذى سيتم اتخاذه مع المخالفين، مشيرا إلى أنه لن يسمح بوجود تحزبات سياسية أو طائفية داخل الحرم الجامعي، موضحًا أن العمل السياسى يكون خارج الجامعة ولا مجال لأى مهاترات سياسية، أو حتى مجرد آراء تعبيرية بخصوص حزب أو جماعة. والأمر لم يقتصر على طلبة الجامعات، بل شمل أيضًا طلبة التعليم الأساسى، حيث حذر الدكتور محمود أبو النصر وزير التربية والتعليم، من الخوض فى أى حديث سياسى داخل المدارس، مؤكدًا أن هذا التنبيه وجه أكثر من مرة لمديرى المديريات. وقال وزير التعليم إن من يرغب فى السياسة فخارج أسوار المدرسة، لافتا إلى أن المدرسة دار للعلم وليست مكانًا لتبادل الآراء السياسية. وأشار إلى أن المعلم الذى يخوض فى السياسة داخل المدرسة، سيواجه أقصى عقوبات حددها قانون التعليم، والتى تبدأ بالخصم المالى من راتبه، وتصل إلى درجة تحويله إلى وظيفة إدارية. وفى إطار ذلك، ترصد "المصريون" آراء المحللين فى أسباب منع هذه الفئات من الحديث فى السياسة. وقال طارق الخولى عضو حركة 6 إبريل سابقًا ومؤسس جبهة شباب الجمهورية الثالثة، إن القرارات التى صدرت بمنع الحديث فى السياسة داخل دور العبادة قرار سليم، لأن المساجد والكنائس لا تعد منابر للسياسة، لأنه من شأنها أن تخلق نوعًا من الفتنة الطائفية داخل الدولة، فقرار وزير الأوقاف بمنع إظهار أي إشارات سياسية من قبل الحجاج المصريين، هو أمر ضرورى، فقبل أن يكون قرارًا من وزير الأوقاف، فإن قدسية الحج تمنع التلفظ أو الإشارة بموضوعات قد يثير الجدل، لأن المولى عز وجل نهى عن ذلك فى شعائر الحج، مؤكدًا أنه لا يمكن لأحد أن يمنع المواطنين من الكلام فى السياسة سواء داخل الجامعة أو خارجها، ولكن يجب أن نفرق بين الحديث فى السياسة وبين النشاط السياسى، فهناك منابر يمكن من خلالها أن يتجه الطلاب أو أى شخص لممارسة السياسة من خلالها، سواء كانت أحزابًا أو حركات شبابية أو انتخابات نيابية ومحلية. تابع: فالحراك الطلابى فى الجامعات لن ينتهى، ولكن لابد أن ينتهى العنف، موضحًا أن المظاهرات لم تمنع من داخل الجامعات طيلة العام الدراسى الماضى، ولكن عندما اتجهت خارج الحرم الجامعى وبدأت فى أعمال شغب وجب أن يتم منعها، لأن هذا لا يعد ممارسة السياسة، فمهام الجامعة فى المقام الأول هو التعليم، وبعد ذلك ممارسة العمل السياسى، ولكن إذا طغى العمل السياسى على المهمة الرئيسية للجامعة، فيجب توقيفه. من جانبه، أكد الدكتور علاء العسكرى الأستاذ بجامعة الأزهر، إن تعديل اللائحة الداخلية لجامعة الأزهر بما يسمح بفرض قيود على الطلاب أو حتى الأساتذة بخصوص الحريات، أمر مخالف للقانون وفى حالة تنفيذه يمكن الطعن عليه والمطالبة بتعويض مالى، خاصة أن القانون لم يمنع الطلاب أو أساتذة الجامعات من الحديث فى السياسة، لأن الجامعات مكان لتربية الكوادر السياسية والقيادية التى تستطيع النهوض بالأمة. وأضاف: فالمجتمع المصرى أصبح يسوده التطرف الفكرى من جميع الجهات، فكل شخص أو مسؤول مقتنع بوجهة نظره مهما تحدث الآخرون، لذلك فمن الأفضل أن نبعد الجامعة عن الحديث فى الجانب السياسى، بمعنى ألا يكون هناك تمثيل حزبى أو سياسى داخل الجامعة، ولكن لا نبعد النشاط الطلابى مع منح الفرصة للتعبير عن الرأى والحديث دون قيود فى إطار النشاط الطلابى، ومن أجل بناء المجتمع، فمعارضة النظام الحالى ليست أمرًا ممنوعًا، وإنما لابد أن تكون المعارضة فى إطار مقبول دون التطرق إلى أعمال شغب أو عنف. وقال الدكتور أيمن عبد الوهاب رئيس برنامج دراسات المجتمع المدنى بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ب "الأهرام"، إن قرار وزارة الأوقاف بمنع الحديث فى السياسة على المنابر أمر سليم، وذلك لأن هناك خطورة فى استخدام السياسية على المنابر، خاصة أن العديد من الأشخاص الذين صعدوا المنابر ليسوا متخصصين، ولكن يهدفون إلى تسييس أمور الدين وزيادة الاستقطاب فى المجتمع، فيجب أن تكون الحكومة حاسمة فى هذا الموضوع ومنع تسييس الدين وتوظيفه من خلال المنابر. وأشار عبد الوهاب إلى أنه بالنسبة للقرار الصادر بعدم استخدام السياسة فى الجامعات، فهو أمر مقبول، خاصة أن هناك فرقًا كبيرًا بين التوعية والدور الثقافى فى الجامعة، وبين تحويل الجامعات إلى ساحات للعمل السياسى والعمل الحزبى، فهذا أمر مرفوض، لأن موقعها داخل الأحزاب، لكن تحويل الجامعات إلى ساحات من التجاذبات الحزبية والسياسية، أمر لا يساعد على تطوير الحياة السياسية فى مصر. وفيما يتعلق بقرار عدم استخدام الحجاج للإشارات السياسية داخل الحج، أوضح عبد الوهاب أنه عندما يتحدث الحجاج عن السياسة، فهذا من شأنه إبطال فريضة الحج، مؤكدًا أن عدم الحديث عن السياسة داخل بعض المؤسسات الحكومية لا يؤثر على الحريات، وإنما لتنظيم العمل السياسى فى مصر، ويجب أن ننتقل من حالة الفوضى التى استشرت فى مصر خلال الثلاث سنوات الماضية إلى إعادة تنظيم الدولة المصرية، والتى تقتضى أن كل شخص يعى مسؤولية دوره ومسؤولية ما يجب أن يقوم به، فالعمل السياسى يجب أن ينظم من خلال الأحزاب والقوى الوطنية. وعلق الدكتور محمد محمود نجيب أستاذ علم النفس السياسى جامعة حلوان، قائلاً: نحن الآن فى مرحلة انتقالية تتطلب التوقف من قبل الطلبة عن الانخراط فى السياسة، وتتطلب ترشيد آرائنا السياسية، فنحن فى وقت نحتاج فيه إلى التريث وعلى الطلبة أن تركز فى التعلم وإكساب المهارات، من أجل الحصول على تعليم أكاديمى جيد، وبعد انتهاء هذه المرحلة ووجود مجلس النواب، يجب أن يكون هناك ضوابط لممارسة النشاط السياسى، لافتًا إلى أننا عندما أتيحت لنا الفرصة أنشأنا 120 حزبًا سياسيًا حتى خارج الجامعة. وعن استخدام بعض الحجاج لعرض آرائهم السياسية فى موسم الحج، أشار نجيب إلى أنه لا جدال فى الحج، لأن هذا يعد كارثة، مضيفًا أن السياسة جدال، أخذ وعطاء وفرض آراء وآراء أخرى مختلفة. ونفس الكلام ينطبق على خطباء المنابر، متسائلاً: لماذا يتكلمون فى السياسة؟ أليس من باب أولى أن يتكلموا عن المشكلات المختلفة الموجودة داخل المجتمع المصرى، مثل مشكلات القمامة؟ لأن الكلام فى السياسة يعد من الرفاهية، ونحن لم نصل لمرحلة الرفاهية. وأضاف نجيب، أن الفترة الحالية التى تمر بها البلاد يجب أن يكون هناك انضباط فى الأقوال والأفعال والأنشطة، ثم وجود مكان وساحات متاحة لممارسة هذه الأنشطة، وهذا يعد نوعًا من أنواع ترشيد السلوكيات غير الرشيدة فى هذه المرحلة الخطيرة والحساسة. من جانبه، قال الدكتور مصطفى علوى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن الحديث فى السياسة ليس محظورًا فى الجامعات، فمن الممكن عقد ندوات ومؤتمرات للتعبير عن الرأى واتخاذ مواقف سياسية، ولا أحد يستطيع أن يمنع ذلك، لا بالقانون ولا بإجراءات أو قرارات إدارية، سواء فى الجامعات أو فى غير ذلك من الأماكن الأخرى، مشيرًا إلى أنه لا يجب أن يكون حق التعبير عن الرأى السياسى أداة لنشر العنف والإرهاب وللقوى السياسية الأخرى والأفراد والمجموعات بشكل يتناقض مع القانون، فهذا يجب أن يجرم، موضحًا أن هناك فرقًا بين شخص يتحدث فى السياسة داخل الجامعة وبين شخص يدعو للانضمام إلى حزب أو خلية أو جماعة معينة داخل الجامعة، فالنوع الأخير يجب أن يكون محظورًا، وهذا يسرى فى كل الدول ليس فى مصر فقط. وأوضح علوى، أن العنف الذى شاهدناه العام الماضى داخل الجامعات المصرية ليس عملاً سياسيًا، بل كان عملاً إجراميًا فى المقام الأول. وأوضح علوى، أن قرار منع استخدام الشعارات السياسية فى الحج أمر سليم، لأنه من المفترض أن الحج له طقوس، سواء فى تحركات أو إجراءات أو مقولات محددة تقال أثناء الحج، وبالتالى لا يجب أن يكون هناك خروج على قواعد الحج المتعارف عليها والمستقرة منذ أكثر من 1400 عام، فلا يجب تحويل الحج إلى حدث يعبر عن آراء مباشرة بين الإنسان وبين الله، إلى كلام فى السياسة، وقد يتضمن اتهامات إلى قوى سياسية أخرى قد لا تكون سليمة، وبالتالى يؤدى إلى إفساد الجو الأساسى لفريضة الحج. وأكد علوى، أن عودة الأمن والاستقرار لمصر لا يجب أن تكون هدف الدولة المصرية، إنما يجب أن يكون أيضًا أن تكون هدف المواطن المصرى، أيًا كان اتجاهه السياسى، ويجب أن نتعلم الدروس من الدول العربية المجاورة لنا مثل ليبيا، والتى أصبحت مجتمعًا بلا دولة، أو ما يسمونه في الغرب بالدولة الفاشلة، مؤكدًا أن مصر لن تكون كذلك فهناك من يريد بمصر ذلك ودخولها فى دوامة الدولة الفاشلة والصراع الداخلى بين القوى السياسية المختلفة أو سيطرة ميليشيات على شارع الدولة المصرية، فهذا لن يكون مقبولاً من المواطن المصري.