لا يقصد بالحركة الإسلامية في هذا المقال فصيل بعينه أو جماعة معينة. أنما المقصود الاتجاه الكلي المجتمعي ناحية الاسلام كعقيدة وشريعة. ينطوي الدين الإسلامي بنيويا على عوامل معينة تساعد على النهوض وهي تلك التي أتناولها هنا. منذ أوائل السبعينات تتوالى مظاهر الصحوة الاسلامية في أقطار الوطن الاسلامي. فالاقبال على الزي الشرعي للمرأة وإطلاق اللحية وارتداء الجلباب للرجل والدروس الدينية لكبار مشايخ التيار السلفي كلها مظاهر لاتخطىء العين مجردة انتشارها. غير أن هذا شيء والنهضة الاسلامية المأمولة شيء أخر تماما. الصحوة هي قاعدة النهضة ومادتها التي تستقي منها مفرداتها الفكرية والثقافية. ولكن لن يحقق المشروع نجاحا إلا بعداستيفاء شروط النهضة بتعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي. تكتفي الصحوة بالعاطفة الدينية والمظهرية, ولكن النهضة تستقي عناصرها من المشاريع الاصلاحية الكبرى منذ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي في منتصف القرن التاسع عشر مرورا بالافغاني وعبده والكواكبي وحسن البنا و رشيد رضا ومالك بن نبي وصولا إلى محمد عابد الجابري وحسن حنفي وآخرين. في رأيي المتواضع تقوم النهضة الإسلامية بعد وصلها بالعاطفة الدينية على ثلاثة أعمدة: الفهم المقاصدي للشريعة. التربية المحفزة الرشيدة. الفكر الإستراتيجي إقليميا ودوليا. ولقد كثر الحديث عن الفقه والفهم المقاصدي للإسلام على مدار العقدين الماضيين وكانت الريادة العلمية في ذلك لمدرسة المعهد العالمي للفكر الاسلامي ورموزها والا طروحات العلمية الجامعية التي قامت على معالجة ذلك المفهوم مثل: " مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع الإسلامي" للدكتور جاسر عودة و" نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" للدكتور أحمد الريسوني و " مصالح الإنسان: مقاربة مقاصدية " للدكتور عبد النور بزا .............................................
ثم تبعتها مدرسة مجلة المسلم المعاصر ثم التقط الخيط عدة مجموعات أكاديمية في جامعات دول شمال إفريقيا بإعتبار أن مؤسس مفهوم المقاصد هو الإمام الشاطبي الأندلسي في القرن التاسع الهجري. وما لبث أن انخرطت مجموعات ثقافة خليجية في دراسة المفهوم مثل مجموعة مجلة الكلمة ومجموعة مجلة الحياة الطيبة. ولا نستطيع اأن ننسى الدراسات العلمية المرموقة على صفحات مجلة االتفاهم التي تصدرها وزارة الاوقاف العمانية. كل تلك الجهود طيبة ولا شك وهي خطوات على طريق النهضة لأن المنهج المقاصدي يبحث عن مقصود الشيء وجوهره وليس عن شكله ومظهره. وهو يتحرك في المستويات المعرفية والادراكية ويربطها عند اللزوم بالفقه العملي. ولكن المطلوب هو نقل آليات التفكير المقاصدي من حيز التداول النخبوي إلى حيز الاستعمال اليومي في كل ما يواجه المسلم في بيته وعمله وفي السوق ... الخ. ولا يمكن أن يصبح كل مسلم فقيه ولكن على الأقل يجب اكتساب بعض آليات التفكير لاستخدامها في المنزل وفي السوق وفي العمل. ويجب على والفقهاء تبسيط ونشر مباديء الفقه المقاصدي التي هي مفتاح مهم من مفاتيح النهضة بعد إدماج المواطن في الفكر المقاصدي المبسط عوضا عن أن يظل محصورا في دائرة النخبة. أما عن التربية والتعليم فحدث ولا حرج؛ فنحن في العالم الإسلامي نتنادى منذ عشرات السنين بوجوب إصلاح التعليم ولكن في واقع الأمر فإنه يزداد تدهورا لأن التعليم في سائر بلاد العالم يتقدم بسرعة مذهلة. والتربية صنو للتعليم لا يفترقان, فأسوأ ما يمكن أن يحدث للطالب المسلم أن يجد تناقض بين ما يقدم إليه في المدرسة وما يراه في البيت. وعلى التعليم في بلادنا أن ينهض على جناحين: التحفيز والترشيد. وكيف تجعل الطالب تواقا لتذوق المعلومة فهو يسعى لها بدلا من أن ينتظرها على طبق من فضة, ذلك هو التحفيز ويجر وراؤه مجموعة متكاملة من منهجيات التعليم. ثم هناك الترشيد وهو أن يتعلم الطالب أن العقل بعد الشرع هو المعيار الأوحد للحكم على الأمور وأنه ليس ثمة تناقض بين العقل والنقل وأن العقل هو أشرف المخلوقات بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن ترسيخ هذه المباديء من مقاصد الشريعة (حفظ العقل) وهي في نفس الوقت من دعائم النهضة. والفكر الاستراتيجي هو كذلك من دعائم النهضة. كم لدينا من مفكرين استراتيجيين على أعلى مستوى لم نستفد من عصارة علمهم ولا أفكارهم. وينحصر هذا الفكر بدرجة أكبر في النخبة السياسية وصانع القرار إلا أن هناك مستويات واجبة على المواطن المسلم العادي. فدعوة غير المسلمين مثلا والتعارف معهم من الأوامر التي أمر بها الله عز وجل في سورة الحجرات, ويجب أن نعي جميعا أن العولمة (بمعناها الصحيح) فريضة إسلامية. ويجب أن تشغل الحركة الاسلامية نفسها بكل تلك الهموم في المرحلة المقبلة, مرحلة النهضة. لقد حان وقت الانتقال من الصحوة إلى النهضة، فقد طال الرقاد وأصبحنا نتساءل: ألا يوجد نهضة بعد هذه الصحوة؟