لماذا لم يأمرنا الخالق سبحانه وتعالى بالتدرج في مقاومة المنكر والوقوف في وجه الظالم المتجبر ومطامعه أيا كانت قوته وجبروته ؟ ثم لماذا ارتبطت درجة المقاومة بدرجات الإيمان من ناحية أخرى، بحيث يضعف الإيمان بضعف درجة المقاومة ؟ وكيف تمكن اللصوص الجدد تلويث وتلبيس مفهوم الإرهاب لمصطلح الجهاد على المسلمين ومسيحيي المشرق ؟. لا شك أن الإجابة على التساؤل الأول تقتضي التأمل في علة الوجود والخلق، أي ما الحكمة من خلق الكون والإنسان ؟ وهل خلق الله السماوات والأرض وما بينهما لهوا أو عبثا ؟ حاش لله أن يكون ذلك كذلك، ولا يخفى هذا على من يمتلك بدهية العقل، لأن الخالق قال في محكم التنزيل( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين* وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون )الدخان 38-39. إذن، خلقت السماوات والأرض وما بينهما بالحق والحق في سياق الآية بمعنى : الصحيح والثابت الذي لا يصلح التدبير بدونه، وفي المقدمة منه يقين الجزاء والحساب بعد البعث. وما دامت الحكمة الأولى لخلق الكون والإنسان هي اجتياز اختبار عبودية الإنسان لله وإعمار الأرض على منهج الله وسننه، كما ورد في نصيحة صالح في القرآن الكريم( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) هود/11. إن من يربي قطا أو كلبا يتمني عليه الطاعة لأنه أطعمه أو آواه، مع أن الإنسان مخلوق مثلهما ولا يميزه عنهما سوي العقل والتدبر واللسان، فكيف بخالق الكون ومدبر شئونه ؟ أليس الله أعلم وأخبر بما يصلح من خلق ؟!! تأسيسا علي ما سبق، وبما أن الظلم والطغيان يؤديان إلى الفساد ويؤذنان بانقطاع النوع البشري وتدمير الكون، فكل عمل أو فعل يؤدي إلى خراب الأرض وفسادها ينبغي مقاومته بكل الوسائل وبأقواها فعالية حفاظا الخلق وحكمة منشيء الوجود من العدم، لأن دفع الضرر هنا لرعاية المقاصد الضرورية الخمسة وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا ما أكدته الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، لذلك أشار ابن خلدون وغيره إلى خطورة الظلم والاستبداد على عمارة الكون، واختصه بباب بعنوان: " إن الظلم مؤذن بخراب العمران" ( ). ويجب ألا يوهن من عزيمة من يتصدى لحمل أمانة المقاومة ما سجل من إخفاقات لأتباع الأديان عبر التاريخ البشري، بسبب ارتباطهم بالسلطة، وتبريرهم لشتى أنواع الهيمنة، فالمنصف يدرك أن نهضة الأديان الأولى قامت على تحديد الغايات الأخيرة والعمل وفقا للهدف، وعلينا هنا ملاحظة أن إقصاء البعد الارتقائي للحياة ( أقصد به الإيمان ) قد أدي إلى فوضى أسوأ من الفوضى التي أحدثتها الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، وستؤدي اتفاقيات وقوانين وحدة السوق ( العولمة ) إلى تحويل العالم إلى غابة تتصارع فيها إرادة قوي الاستغلال الاستبداد المتغطرسة ضد رغبة التنمية عند فقراء العالم أفرادا ودولا( ). أما الإجابة عن التساؤل الثاني، وهي حكمة الربط بين درجة المقاومة وقوة الإيمان فيمكن رده- في رأيي- إلى قاعدة أخري وردت في قوله تعالي ( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) الذاريات/ 56. فعبادة خالق الكون ومدبر أمره ترتبط جوهريا بالإيمان( وأقصد به اقتران العبادات بالمعاملات)، وكلما ازدادت قوة الإيمان كان الإنسان أصدق في عبادته وتقواه لخالقه بامتثاله لأوامره واجتناب نواهيه، أما ضعف الإيمان فسيضعف بالتالي عبودية الإنسان لخالقه ويؤدي إلى اشتداد شوكة الظالم المستبد وتعبد طريق للمفسدين وأنصار الوضعية المطلقة. • تشويه الجهاد والمقاومة لم تتخل الحكومات الغربية بشقيها الأمريكي والأوربي في يوم من الأيام عن استراتيجية الاستعمار لاستغلال ثروات الشعوب وإعادة ضخ السيولة في شرايين اقتصادها كلما جف المصدر، ومراكمة الفتن والشقاقات لتصب في أرصدة تجار أسلحة الدمار ومحتكري الشركات العابرة للقارات للخروج من الأزمات المالية على أنقاض أشلاء القتلى في المساجد والكنائس وفي أكواخ الجوعى والمحرومين في العالم الثالث. ولأن مقاومة الاستغلال والاستعباد تكبح جماح فوضى العولمة الدولية والاستبداد الداخلي وتوقف ولوغهما في دم ضحاياهم، لذلك تم محو ثمانمائة عام من تراث المقاومة ضد الاستبداد بالاعتداء على القوانين التي تكفل الحرية الفردية في أوربا بعد استفحالها في العالم العربي، نزولا على مشيئة السفاحين الجدد، وبالتالي سارعت الأنظمة المستبدة في العالم الاسلامي - بالتخصص- لاقتناص أنصبتها من حطام شعوبها، وذلك باقتفاء أثر الخطى الأمريكية الأوربية فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب. وهاهي الشعوب العربية والإسلامية قد وقعت فريسة لطامع أجنبي ومتربص داخلي، ومثلنا كمثل المستغيث من الرمضاء بالنار. ولم تكتف هذه النظم بألوان الظلم والطغيان والفساد الذي تمارسه ضد شعوبها المستضعفة عشرات السنين، فراحت تقدم الدعم المادي واللوجستي للاستعمار الجديد، وتقايض استمرارها في السلطة بالتماهي مع الطغيان الدولي للقطب الأوحد. واستغلت تلك النظم الاستبدادية عملية إعادة توزيع الثروات وتعظيم المصالح الاقتصادية للدول الغربية الكبرى لتوظيف الظرف الدولي لحساب مصالحها وحساب رجال المال ليزداد ثراؤهم فحشا ودفن الفقراء في أوحال البؤس. وبما أنه لا سبيل لتحقيق أطماع البغل الأمريكي دون الاحتلال المعنوي أو المادي أو كلاهما معا، فلا مفر من استعانته بالمستبدين للاستئثار بوكالة الطغيان الدولي مع عدم الممانعة في اقتسام بعض الغنائم، والتجربة الإنسانية عبر التاريخ تؤكد أن الطرف الأقوى مستعد لارتكاب أبشع الجرائم إذا وجدها لازمة لتحقيق أهدافه وأطماعه. لقد أدرك الاستعمار منذ الستينات أن احتلال إرادة الشعوب المستضعفة من خلال عملاء محليين أقل كلفة وأكثر دهاء، لذلك تحالفت قوي الاستعمار الأجنبي مع النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي لحماية اللصوصية الدولية والمحلية، وكانت الشركات المحتكرة العابرة للقارات في ظل جشع العولمة واجهة مهذبة للوجود الأجنبي تحت غطاء قانوني. وبعد كل ذلك ، هل يعد احتكار الشركات العابرة للقارات لعقود البترول والسلاح المليارية حق أم ظلم واستغلال ؟ وهل يعتبر نزح أقوات الفقراء لمليء خزائن الأغنياء وحاشية الانظمة وخدمها بالعطايا ومنح الولاء إصلاح أم ظلم وإفساد ؟ وهل الإهمال المقصود في حياة الفقراء والبؤساء وإمراضهم وتجويعهم وتجهيلهم من العدل والأمانة في شيء ؟؟ وهل التفريط في ثروات البلاد من أراض ومصانع لحفنة من المنتفعين وتجار الدم استثمارا وصيانة لمصلحة المواطن البسيط ؟؟؟ ولكن أني لأنظمة اليوم أن تفهم تلك الحكمة العظيمة التي تقول " إن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة ؟!!! وأنى لحكامنا ذلك وهم لا يقرأون وإن قرأوا أو سمعوا لا يعون بأن الظلم مفرخة للفساد، وأن وباله آت لا محالة . [email protected]