من المفترض - أخلاقيا وإنسانيا - أن العطايا التي تمنحها الدول الغنية لنظيرتها الفقيرة أو التي تتعرض لحادث أو لطارئ، بمختلف مسميات هذه العطايا من تبرعات أو منح أو هبات، أموالها كالماء والهواء فى مواصفاتهما الفيزيائية من حيث أنهما عديما اللون والطعم والرائحة، حيث يكون للمتلقي أن يوجهها حيث يشاء لإشباع حاجات شعبه وإيفاء متطلبات مواطنيه، إلا معونة أمريكا –اقصد المعونة الأمريكية المقدمة من الولاياتالمتحدةالأمريكية لبعض دول العالم –فمعونة أمريكا تلتصق بها الدولة الأمريكية وتدور معها أينما دارت وتصاحبها أينما تدفقت، فأمريكا "الدولة "، تكون حاضره وبقوه داخل معونتها، حاضره بمصالحها التي تفرض تحقيقها، حاضره باشراطها التي تبتدعها وتقسر المتلقي على إيفائها، حاضره بعجرفتها وتكبرها على المتلقي، حاضره بل وحافلة –فى بعض الأحيان ولبعض دول العالم الثالث – بسلوك " الغنى الشحيح " الذي يظهر للعيان انه يعطى فيما انه –فى الواقع –يتخلص من أشياء لحقها التقادم الاقتصادي، يربكه الاحتفاظ بها ويجهده الإبقاء عليها داخل مخازنه..والانكى انه يوهم الكافة انه يعطى وهو -فى الحقيقة-يأخذ أكثر ويستلب قهرا وقسرا.ولا يجب أن يغيب على أذهاننا قبل أن نبرح هذا المقام أن ما يتداوله الكثيرون من وصم أمريكا ومعونتها بكثير من الأخطاء أو الخطايا لا يجب فقط أن يطول أمريكا فحسب ولكن –أيضا-يظل يلحق بتلك الطائفة من الدول المتلقية التي تستعذب المعونة باستدامة واستمرار على مر الزمن، دون أن تفيق من وكستها وتتخلص من كسلها ومن توانيها عن الاستغناء عنها فى اقرب فرصه، ولا يجب –أيضا - أن يغيب على أذهاننا مرة أخرى قبل أن نبرح هذا المقام أن نؤكد أن هناك فروق فى كثير من الأوجه بين تلقى دوله معونة وبين تلقيها استثمارات، واهم تلك الطائفة من الفروق انه فى الأولى (المعونة)تكون الدولة المتلقية خاضعة لإرادة الدولة المانحة أما فى الحالة الثانية فان المستثمر يكون خاضع لخطة التنمية الاقتصادية التي تضعها الدولة المستثمر فيها، وفى الأولى (المعونة )لا تجد دوله محترمه تقبل عليها أو تقبلها، بل وهناك حالات لدول كانت فى اشد الحاجة إليها لكنها رفضتها لمن تقدم بها إليها، أما الثانية (الاستثمارات ) فجميع دول العالم تستقبلها بل وترحب بها، وقد يدهش القارئ أي يعلم أن اكبر دوله تستقبل استثمارات فى العالم هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، ذلك لان الاستثمارات تعنى مزيدا من النمو الاقتصادي والرخاء ومزيدا من الرفاهة. وقد يدهش القارئ أي يعلم أن شطرا من المستثمرين فى الولاياتالمتحدةالأمريكية من أفراد تنتمي لدول فقيرة تتلقى معونات أمريكا. نعود مره أخرى لصلب موضوعنا ونقول انه إذا كان من الحتم وجود أخطاء وخطايا تشوب المعونات الأمريكية فان كلا من العاطى والمتلقي يظلا مشتركان فيهما.وحتى لا ننجرف بتعميم آراء يجب تخصيصها فانه لابد من التفرقة بين دول تلقت المعونة فى السابق لتعرضها لظروف قهرية كالحروب مثلا، ثم استغنت عنها سريعا بعدما قبضت على زمام أمورها، كدول غرب أوربا، ودول ثانيه بقارة آسيا رغم احتياجها رفضت تلقيها واعتمدت على أنفسها ونجحت فى اجتياز النفق المظلم، وانطلقت فى نماء اقتصادي مبهر ودول ثالثه - مثل مصر - ترزح فى التسول وتغرق فى الشحاذة وتشتهى غير الاستغناء وغير الاكتفاء.
وبقدر من التحديد وشطرا من شجاعة مواجهة النفس، أجد أن علينا أن نوضح أن معونات أمريكا لدول أوربا وإسرائيل واليابان تختلف تماما من عديد من الأوجه عن تلك المقدمة لدول أمثال مصر، غير أن تلك الدول –من ناحيتها – لا تركن إلى التكاسل والاسترخاء أو الاعتماد المستدام على تلقى معونات بل سعت –ونجحت فى ذلك- إلى كسر اسارها ثم الانطلاق إلى ميدان أرحب فى الاعتماد على الذات والانطلاق أسرع إلى آفاق أرحب فى التنمية الاقتصادية والرخاء والرفاهة.
مشروع "مارشال"لدول اوربا
نستهل فى السرد أولا بالدول التي تلقت معونات ثم سعت فى التخلص من هيمنتها و استغنت عنها، ومن أمثلتها دول غرب أوربا التي خاضت الحرب العالمية الثانية وأهمها بريطانيا وفرنسا، حيث خرجت تلك الدول هياكلها الإنتاجية محطمة من جراء الحرب، وقواها الاقتصادية معطله، بل وثروتها المالية نافقه وبناياتها مدمره وجيوشها منهكة.فكان للولايات المتحدة وقتها دورا فى إعادة الإعمار و رَمّْ الاقتصاديات الأوربية المنهارة يتلخص فى أمران عظيما الأهمية، الأول تقدمها بمشروع "مارشال" الذي تضمن تقديم معونة أمريكية قدرت وقتها ب 13 بليون (مليار) دولار (يفوق قيمتها الحقيقية حاليا ال 100 بليون دولار وفقا للأسعار الحالية) لتشغيل المصانع المتوقفة وإعادة بناء الاقتصاد المنهار. الأمر الثاني كان إصدار أمريكا توجيهاتها إلى كل من البنك الدولي و صندوق النقد الدولي فى تقديم يد العون للدول الأوربية مما كان له أعظم الأثر وأحسن البلاء فى إنجاز تلك المهمة خلال تلك الفترة المهمة.وفيما يخص برنامج مارشال فقد وافق –وقتها- الكونجرس الأمريكي فى شهر ابريل لعام 1948على مشروع "مارشال" تحت اسم قانون"الإنعاش الأوربي " وأنشأت الإدارة الأمريكية لتنفيذ هذا البرنامج ما يسمى" إدارة التعاون الاقتصادي " The European Recovery Act The Economic Co-operation Administration (ECA)
وقد اشتملت هذه المعونات على هبات عينيه وقروض ميسره ومنح نقدية استمر تدفقها خلال المدة من 1948حتى عام 1951وعرفت أوربا (والعالم الصناعي بوجه عام )ربع قرن مجيد من النمو الاقتصادي
من عام 1945 إلى عام 1970ويرى بعض المؤرخين أن مشروع مارشال قد حقق نجاحا –لا مراء فيه –فى إعادة إنعاش اقتصادات أوربا حيث ساهم فى استعادة القدرات الإنتاجية لأوربا ويرى البعض الآخر–وهذا هو الأهم – أن مشروع مارشال كان مجرد عامل مساعد لكن العامل الأهم والأفعل.
كان القدرات الأوربية والجهود التطوعية والذاتية المحلية، حيث أنه من الثابت أن المخصصات الأمريكية لم تكن تكفي وحدها لإعادة الإعمار، بل هي كانت حقاً الجزء الأصغر من التكاليف، أما الجزء الأكبر فقد وقع على عاتق الشعوب في أوروبا، فقد كان للجهود الذاتية المحلية أعظم الأثر فى الإسراع بوتيرة النهضة الأوربية حيث تراوحت نسبة إسهام تلك الجهود المحلية ما بين 80% - إلى 90%من إجمالي حجم الاستثمارات المنفذة فى معظم دول أوربا،و قد أعقب العمل ببرنامج مارشال تكوين الدول الأوربية فيما بينها ما يسمى "اتحاد المدفوعات الأوربية" (The European Payment Union).
وقد ترتب على استنبات فكره التعاون الإقليمي والتنسيق فى السياسات المالية والاقتصادية للدول الأوربية فيما بينها إلى بزوغ وتشكيل ما يسمى " بالسوق الأوربية المشتركة"الذي تم تطويره إلى كيان اكبر و أصبح انجح وافعل وهو ما يعرف حاليا باسم " الاتحاد الأوربي" ( European Union )
دور مؤسسات بريتون وودز
يطلق على كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية، مؤسسات العولمة الثلاث، وهى تلك التي أقرتها دول العالم(بخلاف دول المعسكر الاشتراكي) التي اجتمعت فى مدينة " بريتون وودز"الأمريكية عام 1944 – قبيل طي صفحات الحرب العالمية الثانية – لإقرار نظام اقتصادي عالمي جديد.
نبدأ بالبنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي استهل نشاطه فى تعمير الاقتصادات الأوربية المنهارة عقب الحرب العالمية الثانية، وكان المؤسسة الرئيسية فى توفير التمويل طويل الأجل لأغراض التنمية، وقد تمخض عنه مؤسسات شقيقه تشاركه العمل وفق ذات المضمون وفى إطار ما يسمى "مجموعة البنك الدولي " وهى" مؤسسه التمويل الدولية "، و"هيئة التنمية الدولية"، و"الوكالة متعددة الأطراف لضمان الاستثمار" واستمر البنك على ذلك وبوتيرة نشطه منذ بداية الفترة المشار إليها آنفا، إلى نهاية
خمسينيات القرن الماضي ثم تحول فى الستينيات إلى التعاون مع دول العالم الثالث ثم اختص فى عقد التسعينيات فى ترميم اقتصاديات دول الكتلة الاشتراكية سابقا و المتحولة إلى النظام الرأسمالي.وقد أظهرت الأحداث المتعاقبة خضوع البنك وسياساته ومن ثم معاوناته للدول إلى سيطرة ونفوذ الولاياتالمتحدةالأمريكية عليه وقدرتها على توجيه معاملاته وتعاملاته وفقا لإرادتها.
أما صندوق النقد الدولي وقد بدأ نشاطه كمؤسسه "نخبه" تتعامل أساسا مع عدد محدود من دول أوربا (الدول الصناعية ) فى تمويل الأنشطة الاستثمارية فيها علاوة على تسخير النظام المالي العالمي الوليد لخدمة قضايا التنمية الاقتصادية فيها ، وكان من أهم سياسات الصندوق وقتها سياسة "تثبيت أسعار الصرف"للعملات الأوربية فيما بينها باستهداف العمل على استقرار أسعار الصرف وحرية تحويل العملات ،واستمر الصندوق فى مساهماته للدول الأوربية حتى استغنت عن خدماته فاتجه فى الثمانينيات إلى دول العالم الثالث ،وفى التسعينيات إلى دول الكتلة الاشتراكية(سابقا) وتبنى إزاء دول العالم الثالث والدول الاشتراكية المتحولة الذين يرغبوا فى الاقتراض سياسات جديدة يطلق عليها"المشروطية " conditionalities والتي كانت تتضمن ما يعرف بسياسات التثبيت Stabilization Programs وسياسات الإصلاح الهيكلي المالي أو النقدي Structural Adjustment .
الختام
بعد أن انهينا نقاش ظروف الدول التي تلقت فى السابق معونات الولاياتالمتحدةالأمريكية ثم عملت على الاستغناء عنها، و الانطلاق إلى النماء الاقتصادي المستدام، يبقى لنا فى المقال القادم أن نتناقش فى الطائفة الأخرى من الدول ذات الاقتصادات الهشة والأنظمة السياسية الرخوة التي ما فتئت ترزح تحت أغلالها وتتلظى بلهيب شده حاجتها لتلك المعونات متنازلة فى سبيلها عن كثير من كرامتها واعتبارها.