في عالم مات إلهه, ليست هناك قيامة فيها حساب وثواب وعقاب. ولهذا, فكل شيء مباح, إن استطعت طبعا أن تتفلت من تبعاته! وليس هناك شيء دون مقابل. ولهذا وجب فحص طبيعة هيئات المعونات الغربية والدولية التي يظن البعض أنها تساعد الآخرين لأنها خيرة بطبيعتها. وقد صرح نيكسون عام1968 أن الغرض الأساسي للمعونة الأمريكية هو مساعدة أنفسنا, وليس مساعدة الأمم الأخري.وقال إيوجين بلاك الرئيس الأسبق للبنك الدولي وكأنه يشرح كلام نيكسون: إن برامج المعونة الأجنبية توفر سوقا لبضائع وخدمات أمريكا, وتعمل علي توجيه اقتصاديات الدول المتلقية للمعونة لمصلحتها. وصرح جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكي عام1985 بأن برامج المعونة ضرورية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. وأشارت كاترين كاوفيلد في كتابها أباطرة الوهم-إلي أن المعونات توجه لإيجاد فرص للشركات الغربية, وكثيرا ما دمرت الاتزان البيئي وشردت الآلاف وأشعلت الحروب. ورغم أن نسبة معونة التنمية لا تتجاوز18% إلا أن معظمها يذهب لتأسيس بنية تحتية تفيد النخب وليست لها أولوية وطنية, وتروج لمنتجات المصانع الغربية. كما أن معظم المعونات تشترط الشراء من شركات الدول التي تقدم المعونة. لقد عانت البلاد التي تلقت المعونات, ديونا غير قابلة للسداد وبيئة محطمة وفقرا مدقعا وحكومات ديكتاتورية موالية للغرب يستحيل التخلص منها. فكثير من المعونات تكون في صورة قروض طويلة الأجل بفائدة منخفضة, لكنها تفرض شروطا اقتصادية مصممة لزيادة تغلغل الشركات الغربية, وربط الاقتصاد المتلقي باقتصاد الدول المانحة. والمعونة الأمريكية مشروطة بقبول تبني برامج التعديل الهيكلي التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد. وطوال الحرب الباردة كانت الحكومة الأمريكية تتصرف وكأن مصالحها تصبح مهددة من أي تجربة لا تحاكي النموذج الاقتصادي الأمريكي, بما فيه سوق حرة وتراكم مستمر للأصول الإنتاجية وخصخصة. وأي دولة تحاول تغيير نظمها الاقتصادية تعامل كعدو. والعقوبات تكون عادة سريعة وفورية, مثل تعليق المعونات وتسليح الأعداء والمقاطعة. ومنذ نهاية الحرب الباردة أصبحت الأهداف الاقتصادية الصريحة للمعونة الأجنبية( تدعيم اقتصاد السوق وإلغاء الدعم وحرية التجارة) في الصدارة ودون مواربة. وتصمم بعض مشروعات المعونة لتحسين الصورة الإعلامية وإخفاء آثارها السلبية, مثل نشاط الإغاثة الإنسانية. وتقدم الولاياتالمتحدة نحو60% من المعونات الغذائية, لكن معظمها معدل وراثيا, بحيث تصبح الدول المتلقية مجالا لتجارب واختبارات شركات لا تتردد في التربح من المجاعات. فالمعونات الغذائية لا تستهدف الجوعي, بل تستهدف مصالح شركات الحبوب العملاقة, ودعم منتجي الدواجن بترويج مزارع الدواجن والأغذية المصنعة, وتستهدف إيجاد نقلة في أذواق المستهلكين بعيدا عن المحاصيل المحلية ونحو المنتجات الغربية. بل هي تضر بالاقتصاديات الزراعية المحلية, حيث تؤدي الحبوب المدعومة أو المجانية لانخفاض أسعار الغذاء المحلي وهجر المزارعين مهنة الزراعة وانتقالهم للمدن. وبعض المنح تصمم لتشتيت الانتباه عن الحلول الحقيقية مثل منح تطوير العشوائيات دون حل أسباب تكونها, والتفتيت الإداري بحجة اللامركزية! وتصمم برامج المعونات لتشجيع تحويل الجهود القومية لوجهات غير نافعة, مثل معونات التدريب علي زراعات العنب والكانتالوب والفراولة لصرف المزارعين عن زراعة الحبوب! وقد دفعت المعونات الحكومات والمزارع في دول العالم الثالث للتحول لصادرات غير تقليدية, ولمنافسة مستحيلة في أسواق محاصيل قصيرة الموسم وعالية المخاطر كالفاكهة. مما أفسد استقرار المحاصيل الغذائية التقليدية المطلوبة محليا, وزاد من الفقر ودمر الأمن الغذائي, وزاد الفجوة بين المزارعين وملاك الأراضي الأثرياء. فهذه المحاصيل تستلزم كميات كبيرة من المبيدات والأسمدة والخبرة التقنية, وهو ما يعطي ميزة لكبار المنتجين وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة. والرابح الوحيد هي الشركات الدولية ذات القدرة علي المنافسة في السوق العالمية. ولايصل للدول الفقيرة من قيمة البيع النهائية لمنتجاتها الزراعية إلا ما يتراوح بين4% و14%. وكل دولار يمنحه الغرب كمعونة يعود إليه أضعافا مضاعفة. كما تضاعفت باستمرار ديون الدول النامية نتيجة للمعونات والقروض الغربية, وبقيت أوضاع الفقر الحاد علي حالها. إن العالم الثالث يدفع لسداد ديونه للغرب سنويا ومنذ الثمانينات أكثر مما يصله منه كاستثمارات وقروض جديدة. ومن بين130 حكومة تتلقي معونة اقتصادية, هناك خمس عشرة دولة فقط تستأثر بأكثر مننصف المعونات بصورة لاترتبط بمحاربة الفقر, بل بدعم حكوماتها اقتصاديا وعسكريا. وتساهم المعونات العسكرية في تأجيح النزاعات, وتستهدف أيضا تغيير تسليح الجيوش لتصبح معتمدة علي السلاح الأمريكي وتحت السيطرة. ولم يتقلد رئاسة البنك الدولي شخص عمل لصالح الفقراء قط, وكثيرا ما كان من العسكريين, كنوع من استمرار الحرب. كما ركز البنك معظ مقروضه في مشروعات كبيرة كالسدود والطرق السريعة والمواني, وجمد مشروعات الصحة والتعليم والنظافة العامة والإصلاح الزراعي; لأنها تؤثر علي أدوات هيمنة الغرب. وأغلب المشروعات العظيمة التي ساندها البنك فشلت اقتصاديا واجتماعيا بصورة كارثية. وهناك منح وقروض يتم بها تشغيل مواطنين لدراسة أحوال وطنية خاصة تنشر نتائجها بالعربية والإنجليزية بحجة الشفافية, دون أي خصوصية. وقد عمت البلوي بهذه المنح حتي طالت الوزارات والمحافظات والمؤسسات القومية, بل والمجالس المنتخبة. وهكذا اضمحلت الحاجة لتجنيد الجواسيس! لمزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم