الاستعراض المثير لخطب جلادي عصر مبارك أمام المحكمة أمس واليوم يحمل دلالات سياسية عديدة ، رغم أن المشهد أمام منصة العدالة ، أمس كان حبيب العادلي وزير داخلية مبارك وأحد أهم أسباب الثورة على النظام كله يتمطع أمام المحكمة حوالي خمس ساعات كاملة ، لكي يوزع اتهاماته لكل من شاركوا في ثورة يناير ويصفها بأنها مؤامرة ويدافع عن نظامه وعن مبارك وأنجال مبارك ويصف أركان سلطة مبارك بأنهم "شرفاء الوطن" ، إلى آخر هذا الهراء الذي سمعه ملايين على شاشات التليفزيون ، واليوم واصل اللواء عدلي فايد مساعده للأمن العام وحسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة الذي استباحه ملايين المواطنين عقب الثورة باعتباره رمزا لجبروت النظام ورعبه وبطشه بجميع قوى المجتمع ، واصل الاثنان الحديث على نفس المنوال ، العادلي تحدث ببساطة عن تنصته على المعارضين والنشطاء وشخصيات عديدة ، رجالا ونساءا ، وأخذ "بتلقيح" الكلام على المجلس العسكري ، عندما قال أن البعض يتهمه بأنه أراد فض ميدان التحرير والآن لا يستطيع أحد أن يقرب من الميدان ! . حبيب العادلي ليس معتوها ، ولكنه ابن المؤسسة الأمنية ، وابن أقبية النظام وغرفه المغلقة ، ويعرف حدود الكلام ، والمباح وغير المباح ، والعادلي يعرف أكثر من غيره دقة ما حدث منذ 25 يناير 2011 وحتى تم القبض عليه بصورة درامية من خلال الشرطة العسكرية في 2 فبراير من العام نفسه ، حيث كان أول مسؤول كبير من نظام مبارك يتم اعتقاله ، يعرف العادلي الكثير ، ولكنه لا يستطيع الكلام إلا في الحدود المسموح بها ، ولذلك أتيح له أن يتكلم على الهواء مباشرة بدون أي قلق من أي جهة في الدولة ، حتى تلك التي تعطينا الدروس والعظات دائما عن "الأمن القومي" وضرورات الأمن القومي ، كانوا يعرفون فيما يبدو أن ما سيقوله العادلي متفق عليه وليس فيه أي إضرار بالأمن القومي ، وبالتالي لا مانع من أن يتكلم علنا وتنقل خطبه العصماء على الهواء مباشرة من قاعة المحكمة ، وكأنه في قاعة مجلس النواب أو في مؤتمر صحفي ، وتستطيع بسهولة إدراك ما لا يمكن البوح به عندما تقارن ذلك بما يحدث في محاكمات المعارضين للنظام الحالي ، سواء من التيار الإسلامي أو من القوى المدنية وائتلافات ثورة يناير ، حيث يمنع البث الحي ، بل ويمنع التصوير والتسجيل ، ويوضع الجميع في أقفاص زجاجية خانقة بالكاد يسمع المحامون صريخ بعضهم أو صفيره ، رغم أن ما يعرفه هؤلاء المعارضون لا يصل لعشر ما يعرفه العادلي عن حقيقة ما حدث وما كان يجري في الغرف الأمنية المغلقة . تستطيع أيضا أن تستوعب أن كلمات حبيب العادلي وتشهيره بثورة يناير ودفاعه عن مبارك ونظامه ودفاعه عن سلوك الجهاز الأمني في عهده ، كل ذلك كان مطلوبا نشره ، وكان مرغوبا فيه ، وكان يصادف هوى لدى قطاعات نافذة في الدولة حاليا ، رغم أن هجاء ثورة يناير بنص القانون جريمة ، لأنه إهانة للدستور الحاكم للبلاد حاليا ، والذي نص على أن 25 يناير هو ثورة مجيدة ، فعندما يأتي "مجرم" أمام المحكمة ليصفها بأنها مؤامرة وينقل كلامه هذا عبر الشاشات على الهواء مباشرة ، ولا يواجه إلا بابتسامات عريضة في القاعة ، فإن هذا يجعلك تضع علامات استفهام كثيرة حول المشهد كله . الأمر المؤكد ، والذي ينقشع غمامه تدريجيا مع توالي الأحداث والمفارقات ، أن قصة ثورة يناير لم تكتب بكاملها حتى الآن ، هناك جزء من الحقيقة معروف وظاهر ، وهناك أجزاء أخرى غير معلنة ، هي مفتاح الحسم في فهم ما جرى ، كانت هناك ثورة شعبية حقيقية ونبيلة ومدهشة عشناها وشاركنا فيها يوما بيوم ، وهي جزء من موجة ثورية شعبية اجتاحت المنطقة كلها وليس مصر وحدها ، ولكن كان هناك أيضا صراع سلطة مكتوم تقاطع مع الحراك الشعبي الذي كان الجميع يتوقعه ويخافه ، وبالتالي ، كانت كل الأحداث والقرارات والسياسات والتنظيمات والقوانين والإجراءات التي تمت منذ 18 يناير 2011 وحتى 30 يونية 2013 ، بصحيحها وسقيمها ، وحسنها وسيئها ، وصالحها وطالحها ، وحقها وباطلها ، هي شراكة بين الحراك الثوري والجيش ، ولا يمكنك أن تبارك طرفا دون أن تبارك الآخر ، كما لا يمكنك أن تدين طرفا بدون أن تدين الآخر ، ولا يمكنك أن تحمل طرفا مسؤولية حدث ما ، أي حدث ، إلا إذا حملت الطرف الثاني المسؤولية أيضا ، وهذا ما جعل كلا الطرفين منذ لحظة إطاحة مبارك وحتى الآن ، باستثناء الأشهر الأخيرة من حكم مرسي ينظر للطرف الآخر ، كعبء يريد التخلص من ملاحقته وأن يمحوه من ذاكرته ، ولا يستطيع ، لكن الطرف الذي كان يعرف منذ اللحظة الأولى ماذا يريد وخطط بدقة لمساره العملي كان أقرب لجني الثمار من الطرف الذي تعامل بعفوية وبراءة وافتقد القدرة على بلورة أهدافه عمليا . يوما ما سيكتب العادلي مذكراته عن تلك المرحلة ، أو يكتبها غيره من صناعها وشركائها ، يوما ما ستقال الحقيقة كاملة ، وحينها سيصدم الناس من هول الحقائق التي ستتكشف أمامهم عما جرى في ثورة يناير .