غزة برصيد رجولتها تخوض حربها في ظروف شديدة القسوة وشديدة التعقيد ، فبعض دول الجوار تنظر إليها على أنها تشكل شوكة في خاصرة بعض الأنظمة طالما تحكمها حماس، وإعلام العهر السياسي يحرض كل يوم على تصفية حماس ورجالها باعتبارهم امتدادا لتنظيم الاخوان المشيطن والمصنف إرهابيا في تلك الدول. غير أن الحرب الأخيرة على غزة كشفت عن نوعين من الخطأ في رهانات العدو والجبهات التى تشاركه الجرائم من الصهاينة العرب والمتواطئين من المجتمع الدولي التى تسانده إعلاميا وسياسيا وتصمت على جرائمه.
الخطأ الأول : هو أن رهان العدو في الحروب السابقة كان يعتمد في العمل على كسر إرادة الفلسطينيين وخصوصا في غزة ليس فقط بالاعتماد على ضربات موجعة ، وإنما على ضربات شديدة القسوة واسعة التدمير مهما كانت النتائج.
فالعدو يأمن جانب الغضب العالمي حيث يتولى اللوبي الصهيوني مهمة تهدئته، بينما يستطيع الإعلام الموالى له والخاضع لسيطرته بفعل التكنولوجيا الحديثة أن ينتقى من المشاهد والصور ما يناقض الحقائق على الأرض ، وما يحول الضحية إلى مجرم ويحول الجاني الصهيوني إلى ضحية مدنية مسالمة تريد أن تعيش، غير أن منظمة إرهابية إسمها "حماس" تمطرها بوابل من الصواريخ المزعجة.
الكذبة الخادعة سارعت بنشرها أبواق إعلامية ضمن إعلام العار العربي في عواصم عربية وكررت ترديدها ومحاولة تسويقها دون خجل أو حياء.
الخطأ الثاني : أن بعض دول المنطقة العربية التى ترغب في القضاء على المقاومة عن طريق الوكيل المعتمد وهو اسرائيل ، تعاملت مع مجموع الأمة بنوع من الغباء، حيث ظنت أنها يمكن أن يظل موقفها سرا وبعيدا عن الظهور والشهرة ، غير أن الوكيل المعتمد والمكلف بالقضاء على المقاومة كشف ذلك في عاصمته التى هي كعبتهم الجديدة ، وكذلك فعل الخسيس بتوجيهه لأذرعه الإعلامية في عواصم عربية لتقوم بالواجب في تبرير جرائم الوكيل المعتمد ، بينما قام بدفع فواتير الحساب أولئك الذين يريدون "نسونة الأمة" والتخلص من كل مظاهر الرجولة فيها.
بمعنى أكثر وضوحا: أن حالة العهر والفجور السياسي آلت بالعرب الأجاويد إلى أن دولا بعينها طلبت من إسرائيل محو حماس من الخريطة ، وعرضت تمويلا لتلك العملية ، وهذه الأخبار وغيرها تداولتها صحف وإذاعات وتناقلتها حتى صحف وإذاعات وقنوات إسرائيلية ، ومن ثم فلم يعد الامر سرا مخفيا.
القضاء على حماس والمقاومة هو بداية ذلك المشروع الفضيحة الذى يعيد إلى الذاكرة قصة ملوك الطوائف حين كان أحدهم يغار على خيمة الآخر ويأخذ زوجته وعنزته ، ويستعين بالعدو على هزيمة أخيه، وتتكرر الكارثة اليوم ممثلة في مشروع" نسونة الأمة "
تلك الجريمة الأخلاقية عكست مستوى الانحدار والسقوط والخذلان التى وصلت إليه الأنظمة العربية حيث تحولت الخلافات السياسية بينها وبين التيار الإسلامى إلى الاستعانة بالعدو والانحياز الكامل لجرائمه بظن أن العدو الصهيوني الذى يقاتل حماس نيابة عنهم يمكنه القضاء على حماس في بضعة أيام.
غير أن المفاجأة أن نساء فلسطين بمواقفهن قمن بمهمة رفض هذا المشروع "مشروع نسونة الأمة" ومقاومته بكل أساليب البطولة حين يستقبلن خبر هدم البيوت واستشهاد الزوج أو الإبن بالزغاريد، والإصرار على بنائها مرة أخرى في أرض فلسطين 48
رمزية الأمل التى تبعث بها المرأة الفلسطينية في الحدث لا تجعل إفشال المشروع ممكنا فقط ، بل وسهلا رغم حجم التضحيات المخيفة التى يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
الرمزية أيضا مصحوبة بالإصرار على صمود الشعب الفلسطيني في غزة وقدرة مقاومته وتطوراتها النوعية تبعث أيضا برسالة أخري يَفْهَمُ منها كل شريف في العالم وبخاصة في وطننا العربي والإسلامي أن رجولة الأمة تستعصى على الشراء أو البيع في أسواق العبث الصبياني والنخاسة العربية التى يتاجر فيها بعض العيال ممن يمكلون المال ولا يمكلون معه العقل أو المروءة والشرف.
خطيئة الغباء في فهم رسالة المرأة الفلسطينية زادت من حجم فضيحة العار العربي المشارك في الجريمة بالفعل أو بالصمت عليها حيث النظر القاصر صورها لهم بأن الجرائم ليست ضد غزة بقدر ماهي ضد غريم سياسي هو حماس ، لكن رمزية الرسالة أيضا وفي تلك الظروف الحالكة فتحت أفقا جديدا شكل ضوءا في النفق المظلم يخبرك عن ميلاد جديد للشعب الفلسطينى ، يعقبه بإذن الله ميلاد جديد للشعب العربي ، الميلاد الجديد هناك في أرض العزة سيولد ميلادا آخر في أرض الخمول العربي وسيفجر حتما غضبا شعبيا متراكما ربما يطيح في أول إعصار له بهؤلاء الذين يتبنون مشروع العار وهو مشروع نسونة الأمة والقضاء على الرجولة فيها.
بعد صمود المقاومة والتغيير النوعي الذى أحدثته في استراتيجيتها تجاه العدوان وتميزها بالبعد الأخلاقي في حربها حيث لا تستهدف المدنيين كما يفعل العدو، وتلتزم في بياناتها بالصدق المطلق ، بعد هذا الأمر ستتغير على مستوي المحيط الإقليمي مواقف دول الجوار، لأنها ستجد نفسها في موقف حرج أمام شعوبها، ومن ثم ستدلى ببعض التصريحات الفارغة من أي مضمون ذرا للرماد في العيون ، ورفعا للعتب العربي المكبوت، وتفريغا لطاقة الغضب المقدس التى تتراكم كل يوم مع رؤية كل جريمة إنسانية حمقاء ترتكبها إسرائيل وتقابل عند العرب الأجاويد بدعم معنوي يتمثل في جريمة الصمت والسكوت العربي .
فريق آخر من دول الجوار مشغول بمشكلاته الداخلية ، وهو يعيش كَلًا على مولاه الأمريكي يتلقى منه المعونات مرفقة بقائمة من الأوامر فيما يجب أن يكون عليه رد فعله ، وما يجب أن يفعله تجاه الأحداث الجارية بجواره ، وعليه أن يلوذ بالصمت ولو بلغ الحريق منتهاه، ومن ثم فلم يعد لديه بقية من طاقة يبذلها للشعب الفلسطيني الذى يعيش تحت النار غير كلمات الشجب والإدانة التى تصدر في خجل وعلى استحياء ذرا للرماد في عيون الشعوب التى تقدم لحكامها الطاعة وتأخذ في مقابلها الهوان.
هذا الواقع المهترئ لم يغب عن عقول المخططين الاستراتيجيين في المقاومة حيث استوعبوا كل الدروس وتعلموا من تجاربها السابقة فأخذوا بعين الاعتبار هذا الواقع المؤلم واعتمدوا في حساباتهم الحكمة التى وردت شعرا في أدبيات أجداهم العظماء حين قالوا :
ما حَكَّ جِلدَكَ مِثلُ ظُفرِكَ. فَتَوَلَّ أَنتَ جَميعَ أَمرِكَ
المثل في بيت الشعر يعكس ضرورة استقلال الإرادة واستقلال القرار، وعدم التعويل على جار أو صديق، أو حتى على أخ شقيق.
ومن ثم كان خيار المقاومة أن ترد بالمثل ، وأن تجعل المحتلين في ذعر دائم وذهول مستمر ودخول في المخابئ يتجدد مع صفارات الإنذار التى لا تكاد تنقطع.
ظهور الُمعامِل الجديد في الحرب الحالية كان مفاجأة ، ليس لإسرائيل وحدها ، بل لأنظمة تمنت أن تنتهي إسرائيل من القضاء على المقاومة في ليلة واحدة، ولكن:
ليس كل من يتمناه المرء يدركه …..... تأتي الرياح بما لا يشتهى السفن
وربما تكون أيضا منية المتمنى في أمنيته.
والقضية في المشهد الدامي ليست حماس أيها الناس ، وإنما القضية قضية شعب مستباح منذ أكثر من ستين سنة ، دخل في مباحثات كانت أطول من ليل الشتاء البارد عبر كل الزمان وأكثر ظلاما منه ، قدم الشعب الفلسطيني فيها مئات الآلف من الشهداء ، وملايين المشردين وتنازل عن كثير من حقوقه ليعيش في سلام وبكرامة، ولكن العدو كان مع كل يوم يقتطع من أرضه ويعتدى على شعبة ويجرف زراعته ويقطع عنه الماء والكهرباء ويعتقل الألاف من أبنائه، ولم يخضع يوما لقانون ولم يلتزم بمعاهدة ، وحتى حل الدولتين والتى رضي فيه الجانب الفلسطيني بدولة منقوصة الحرية ومنقوصة الإرادة وتقوم على 6 ٪ فقط من أرض فلسطين حتى هذه ماطل فيها ولم ينفذها العدو.
ومن ثم على العالم أن يدرك أن هناك أكثرمن فرق بين من يدافع عن أرضٍ جذوره فيها تمتد لعشرات القرون ، وبين من جاء من كل بقاع الأرض مدفوعا بخرافة دينية عن أرض الميعاد،
المقاومة تدافع عن أرضها بدافع عقدي صحيح ، ولكن أصحابنا العرب الأجاويد يريدون أن يجردوها من هذه الميزة ، وهي الميزة الوحيدة التى تجعل الدفاع عن الوطن ولو كان بالموت هو الخيار الأفضل.
والمقاومة لن تنهزم مهما كان حجم سلاح العدو ' والألق الجديد الذى أضفاه رجال المقاومة بابتكاراتهم المذهلة جعل دماء الشهداء هذه المرة ليس فقط برائحة المسك ، وإنما أضحي ممزوجا برائحة الثائر البطل الذي يظل حيا وإن سقط شهيدا ،لأنه لا تنكسر له إرادة ، ولا تسقط له همة، بل يظل كل شئ من حوله أمام عجرفة الإسرائيليين وغرورهم وبطش آلتهم العسكرية في حالة مقاومة مستمرة، يشترك فيها كل شئ حتى رفات المقابر.