فجر يوم عيد الفطر.. طرقت جارتى المقربة إلى قلبى باب بيتى متهللة الوجه، حاملة صينية فخمة عليها ما لذ وطاب من حلوى وكعك وخلافه، ثم جلست على كرسيها المعتاد، وبعد أن التقطت أنفاسها، اعتدلت فى جلستها وأخذت تسرد كل ما استعدت به من أسلحة ثقيلة وخفيفة لاستقبال العيد، فوقفت فى البداية مستعرضة عباءتها الأنيقة المطرزة والتى اشترتها خصيصا لصلاة العيد، وأخرى لترتديها أثناء مقابلة ضيوفها من الأهل والأصدقاء.. ثم شرعت تخبرنى أنها لم تكلف زوجها فوق طاقته من ثمن هذه الأشياء التى جهزتها، معلنة فى زهو شديد أنها كانت توفر من مصاريف المنزل طوال العام وتعد العدة لإنجاح عمليات عجن وخبيز الكعك والبسكويت بأنواعه، فاشترت أشهر الكتب فى إعداد الحلوى.. ثم تبسمت قائلة: سوف ترين النتيجة بنفسك، وناولتنى كعكة مما أحضرت ناظرة فى تقاسيم وجهى محاولة الوصول إلى رد فعلى وأنا أضعها فى فمى وكأننى سأعطيها شهادة "الأيزو" الشهيرة . للحق .. لم أرد إطفاء بهجتها فقد كان الطعم لذيذًا بالفعل .. ولما أخبرتها بذلك.. اتسعت ابتسامتها لتملأ وجهها، وبادرتنى مسرعة: وأنت..؟ قلت لها: أنا ماذا؟ قالت أرينى ما فعلت؟ وكيف استعددت لاستقبال العيد؟ انتابتنى الحيرة فلم أجد إجابة مناسبة أبرر بها عدم خوضى المضنى لتلك التجربة المتكررة سنويًا، وذلك ليس زهدًا فى العيد والاحتفاء به، أوعدم قدرتنا المادية أو غيرها إنما كان إعراضى عن ذلك.. لفكرة تعبدية بحتة، فقد راجعت نفسى بعدما استيقظت فيها مشاعر عديدة تجلى فيها الشفيف الخالى من الأغراض المادية، وكأننى وجدت كنزا حينما انتزعت هذه اللحظة، أخذ قلبى يدق بعنف و يعزنى فى السؤال: كم من السنوات أضعت فيها قيام وتهجد العشرة أيام الأخيرة من الشهر الذى يأتى ولا يعود لعام كامل والتى يعتق رب العزة فيها من النار المصطفين من عباده الأخياروالتى كان النبى صلى الله عليه وسلم يحييها بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن، متوجها بكل كيان روحه لله رب العالمين. فهل أطمع أن أكون من العتقاء وأنا التى قضيت تلك الليالى قبلا منهمكة فى صنع مثل هذه المخبوزات التى مع نجاحها لا نأكلها تمامًا إنما نهدى بعضها ونأكل أقلها والجزء الأكبر يترك حتى نلقيه رغما عنا فى المهملات، ووجدتنى أردد لجارتى الحبيبة: ماذا فعلت لأحتفل بالعيد؟ ماذا قدمت فى الشهر الفضيل لأكافئ نفسى وأسرتى عليه؟ فنظرت إلى ساهمة لا ترد، فقلت لها: أليست الفرحة بالحصاد يجب أن تساوى الجهد فى الغرس، وبقدر الجهد المبذول نرجو النجاح؟ ووجدتنى أوجه لنفسى أمامها هذه التساؤلات التى تشبه الطلقات فى قوتها.. ثم قلت فى صوت شجن: والله إنى أخاف التقصير؛ وأشفق على نفسى ..فهل أديت واجبى تجاه الله؟ هل ساعدت أسرتى ونصحت جيرانى للسعى فوزا بالجنة، هل تكاسل زوجى أو أحد أبنائى يومًا عن صلاة الفجر أوالقيام وشجعته فخلع عباءة الكسل رائحًا أو غاديًا إلى المسجد؟ هل أكدت على زوجى بضرورة الإسراع لإخراج زكاة الفطر، أو أشرت عليه بإعطائها للمحتاجين من ذوى قربانا؟ هل حفظت قلبى وجوارحى عما يغضب الله، وتذاكرت آية مع جاراتي؟ هل بررت عائلتى واتصلت بهم ولو بالهاتف، هل أطعمت جائعا وأعطيت محتاجا؟ ثم .. لو كنت قد فعلت ذلك حقًا .. أكان إيمانًا واحتسابًا.. أم عادة وطريقة؟ وتمتمت: لو كنت فعلت ذلك يا جارتى الحبيبة فلى أن أحتفل بالعيد معك بأبسط الأشياء.. وأفرح به وأبتهج مصداقًا لقول حبيبى صلى الله عليه وسلم: للصائم فرحتان. وفى لحظة أشد صفاء من بياض الفجر.. قامت جارتى محتضنة إياى بحب شديد بعد أن مسحت لؤلؤة تقطرت من عينيها قائلة: ليتنى استعددت مثلك للعيد.. ليتني.. فارتديت حجابى وانطلقت معها وبأيدينا الصغار لصلاة العيد ونحن نردد:"الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد" ومن حولنا أصداء الأصوات الخاشعة بذكر الله تملأ الفضاء.