كانت العرب قديما تقول : الحق أبلج والباطل لجلج ، في إشارة إلى وضوح حجة صاحب الحق لوضوح الحق ذاته في معظم الأحوال ، وبالتالي يكون خطابه واضحا وسهلا وبسيطا ومباشرا ومقنعا من أقصر الطرق ، بينما الباطل دائما يحتاج إلى اللف والدوران و"الهلفطة" أحيانا من أجل أن يراوغ العقل ويمرر رؤيته غير المقنعة التي لا تستند على حجة أو برهان ، هذا بالضبط ما تجده في الحوارات الدائرة على خريطة طريق مستقبل الديمقراطية في مصر التي حددها الاستفتاء على الدستور ، وقد ذكرني بذلك مقال الدكتور حسن نافعة أمس ، الذي كان حالة نموذجية للجلجة الباطل ، وكنت أربأ برجل في مكانة الدكتور نافعة ، الذي نحترمه ، من أن يركبه العناد إلى هذا الحد ، مما أوقعه في سلسلة مواقف وآراء لا يمكن أن تصدر عن مفكر سياسي مرموق وعقلاني مثله . في مقاله الذي جعل عنوانه "الأغلبية ليست دائما على حق" ، اعترف فيه في مقدمته بالحق الواضح الصريح فقال (لا خلاف على المبدأ القائل بضرورة احترام الأقلية لقرار الأغلبية، لأنه يشكل القاعدة الرئيسية التى يستند إليها كل نظام ديمقراطى. لكن ما الذى يعنيه هذا المبدأ بالضبط) ثم شرح المعنى بقوله (أن تصويت الأغلبية هو الفيصل فى العملية الإجرائية الرامية لتحويل وجهات النظر المتنافسة على الساحة إلى سياسات وتشريعات وقوانين وإجراءات ولوائح قابلة للتنفيذ) ، هذا هو جوهر الموضوع ، علميا وسياسيا وأخلاقيا وديمقراطيا ، ولكن نافعة راح في بقية المقال الطويل يضني نفسه في تفسير سبب انقلابه على هذه البديهية العلمية والديمقراطية ،وكان محصلة كلامه العجيب أنه يمكن أن يكون رأي الأغلبية خطأ ، كما أن التأكيد على صحة رأي أو خطأه يكون بعد تحققه في الواقع ومعرفة عواقبه ونتائجه ، ثم بسرعة اعتبر أن رأي الأغلبية تحقق واقعيا وثبتت نتائجه الفاسدة والمنحرفة ، أي والله هكذا قال ، وحرفيا قال (فالواقع أن كل يوم يمر يؤكد أن رأى الأغلبية سيقودنا جميعا إلى مأزق، وأن النهج الذى اعتمده الاستفتاء لن يوصلنا إلى الهدف) ، وبالطبع نافعة يتكلم عن وطن آخر غير مصر التي نعيش معه فيها ، ونرى ما لا يراه بكل تأكيد ، ثم إني أستغرب من أين أتى بكل هذه النتائج "الواقعية" رغم أن خارطة الطريق لم تنفذ بعد ، هل أتى بالنتيجة من الكونترول كما يقولون ، هل اطلع الغيب ، أم أنه العناد والمكابرة اللذان يورثان صاحبها التورط في ما يسيء ويحرج . ولأن الباطل لجلج ، راح نافعة يشرق ويغرب ، ويحكي لك عن تاريخ الثورة الفرنسية وأننا في مصر نخاف أن نكرر بعض تجاربها ، كما قال أن الاستفتاء كان مثل ثغرة الدفرسوار في حرب أكتوبر !!!! ، وكلام عجيب وأخلاط فكر مدهشة تؤكد لك أنك أمام عقل تائه وأن الرجل لا يعرف كيف يقنع الناس بحجته ، لأنه لا حجة له بالفعل . وفي موقف شديد الظلامية والاستبداد ، ومتشح بكل ما في "الكهنوت" الفكري من كآبة ، يعتبر الرجل أن الشعب المصري الذي وافق على التعديلات الدستورية كان يحتاج إلى مفكرين ينورونه ويوضحون له الصواب الذي ضل عنه ، أو كما يقول (تحتاج المجتمعات، فى لحظات التحولات الكبرى، التى عادة ما تعقب الحروب العسكرية والثورات الشعبية، إلى من يعينها على إدراك عمق مغزاها ويعرف كيف يستثمرها لإحداث نقلة نوعية) ، وهو بالطبع يقصد بأن الحكمة ومغزاها كانت مكتنزة في رأيه هو وفريقه ، أما رجل مثل المستشار طارق البشري مثلا فهو "طرشجي" عند نافعة ، ولا يملك الحكمة التي يفهم بها "عمق المغزى" ، وطبعا مع البشري مئات الآلاف من المثقفين والمفكرين والأكاديميين والخبراء والقانونيين والإعلاميين ومختلف شرائح المجتمع الذين ذهبوا إلى نفس رؤيته ، فهؤلاء جميعا لا يمثلون "نخبة" عند نافعة ، بل هم جهلة أو دراويش خدعهم بعض المتدينين بحديث عن دخول الجنة إذا صوتوا بنعم . والأكثر غرابة وإدهاشا في مقاله "التاريخي" والذي يكشف عن استبطان منطق ديكتاتورية الأقلية بشكل صريح وفج اقترح نافعة خريطة طريق أخرى بدلا من تلك التي اختارها الشعب في الاستفتاء ، وهي كالتالي : مجلس رئاسى برئاسة المشير طنطاوى وعضوية أربعة من المدنيين، يتولى تحديد البوصلة العامة والخطوط العريضة لاستراتيجية مصر المستقبلية، ويتولى كل منهم الاستعانة بمن يشاء من خبرات ثانيا : حكومة برئاسة شخصية تملك رؤية سياسية مستقلة وتقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب، وتتولى تنظيف ركام النظام القديم من ناحية، واقتراح وإصدار التشريعات اللازمة بتأسيس نظام سياسى جديد بعد التشاور مع المجلس الرئاسى، من ناحية ثانية، وإقرارها من جانب برلمان مؤقت، من ناحية ثالثة أما ثالثة الفضائح فهي حسب نص كلامه (برلمان مؤقت يتكون نصفه من أعضاء البرلمان الشعبى، ونصفه الآخر من ممثلين عن شباب الثورة والقيادات النقابية والعملية والمهنية المنتخبة والممثلة لمؤسسات المجتمع المدنى) . ولاحظ أنه أسقط الشعب تقريبا من المعادلة بالكامل ، فلا الشعب سيختار مجلسه الرئاسي ، لأن الذي سيختاره بالقطع حسن نافعة وأنصاره لأنهم هم الحكماء الذي يملكون البصيرة والمستقبل ، ولا الشعب سيختار الحكومة ولكنه هو ايضا و"الكهنة" الذين يختزنون الحكمة في عمق قلوبهم هم الذين يختارونها ، ولا البرلمان سيختاره الشعب ، وإن كان الرجل قد "تصدق" على الشعب المصري بأنه ربما يمنحه "قطعة" من البرلمان الجديد ، ولاحظ معي منتهى الاحتقار للمصريين والاستعلاء عليهم في قوله "البرلمان الشعبي" . هذا هو كلام حسن نافعة ، العاقل الذي فيهم ، فكيف بما تسمعه أو تقرأه من الباقين ، ثم هم بعد ذلك يتأففون من الشعب الذي يلقيهم جميعا وراء ظهره ، وربما يدوسهم بالأقدام في رحلته الجادة نحو الديمقراطية ومجتمع ما بعد الكهانة وديكتاتورية الأقليات . [email protected]