وبدعوة كريمة من المركز الأسترالي للثقافة المسيحية بالعاصمة السياسية للقارة الأسترالية ،كانبرا أقيم بالأمس الأربعاء 16|7|2014 حفل إفطار وتكريم بحضور عدد من وزراء الحكومة الفيدرالية وعدد من رؤساء الجامعات والقادة الدينين من المسيحيين واليهود والبوذيين ، وقيادات الدولة السياسية والإعلامية وكذلك عدد من سفراء الدول الإسلامية وغيرها ، كنت أعرف أن لي كلمة في هذا اللقاء ، لكنى لم أعرف أنها الكلمة الرئيسة في هذا الحفل ، كما أنى لم أعلم أنهم أعدوا لشخصي الضعيف تكريما خاصا كان هو التكريم الوحيد في الحفل . تولت تقديم الحفل مذيعة من ألمع مذيعات التليفزيون الاسترالي وكانت قد اعدت مقدمتها عن خصائص شهر رمضان بشكل رائع وتحدثت ببراعة بالغة تشعرك أنك أمام عالم إسلامي متخصص يلقي إليك بكم هائل من أسرار الصيام وحِكَمِه وأحكامه . في العادة تكون الكلمات مختصرة في مثل تلك اللقاءات ، وقد حرصت أن تتضمن كلمتى عددا من الرسائل الموجهة التى تستهدف عقل المخاطب الغربي وبخاصة أن الحضور يمثلون النخبة الأكاديمية والسياسية التى تملك القرار وتصيغ القانون وتوجه الرأي العام . لا يستطيع المرء مهما اغترب به المكان أن ينفصل عن نبض أمته ، ولا يمكن أن تطغى مجاملات السياسة فتطمس أو تخفى الجرائم الوحشية التى تمارسها إسرائيل على أرض العزة في غزة الصمود والرجولة والشرف ، لذلك امتزج بالأمس حديث الثقافة والسياسة بالمصارحة والوضوح لتكون الرسالة واضحة للحاضرين ومن يتابعون . وكانت هذه الكلمة باللغتين العربية والإنجليزية .
أبدأ شاكرا وممتنا على هذا الفطور الرائع الذي يعكس بصدق حرص الشرفاء على بناء علاقات محترمة بين أبناء الجاليات المختلفة، وتحت قيادة الدولة ورعاية القادة الروحيين وزعماء الأديان . وبعد أن شرفتمونى بالدعوة والوقوف بين أيديكم لإلقاء هذه الكلمة أرجو أن تأذنوا لي بالإشارة إلي مجموعة من الحقائق أجملها فيما يلي :
أولا : المناسبة التى نلتقي في رحابها اليوم هي رمضان، ورمضان ليس خاصا بالمسلمين وحدهم ، وإنما هو عيد ميلاد الرسالات السماوية.. ففى أول ليلة من رمضان نزلت صحف النبي إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام. وفى السادس من رمضان نزلت التوراة على نبي الله موسي عليه السلام. وفي13 رمضان نزل الإنجيل علي نبي الله عيسي عليه السلام . وفي 18 رمضان نزل الزبور علي نبي الله داود عليه السلام. وفي 24 من رمضان نزل القرآن علي محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم . ومن ثم فرمضان إنما هو عيد ميلاد كل الرسالات الرسماوية.
ثانيا : الأوطان العظيمة ليست فقط ناطحات سحاب وغابات وأبنية من الحديد والاسمنت والمسلح، وإنما هي قبل كل ذلك بشر لهم روح وقلب وعقل. ونحمد الله أن الروح في سكان هذه القارة تتمثل في الطبيعة المتسامحة التى تشكل الوعاء الحضاري الذي يضم ويحتضن كل أنواع اللغات ومنها الصينية والفيتنامية والتركية والعربية وغيرها ، فتعكس تلك القيمة حقيقة التعددية الثفافية والحضارية في أجمل مظاهرها المتناغمة والمنسجمة مع طبيعة التكوين الاجتماعي لوطن عظيم.
أما قلب القارة فهو المحتوي والوعاء الذي يضم ويحتضن الإيمان الديني العظيم حيث يتجاور المسجد مع الكنيسة ، ومن حسن حظنا أن بلدنا أستراليا ضم أجمل صروح العبادة والتعاليم الكنسية بجوار أجمل صروح العبادة والتعاليم الإسلامية .
أما العقل في أتراليا فهو يتمدد ويتطور باستمرار ، ويفرض رؤيته ورؤاه ممثلا في الإضافات العلمية التى يضيفها العلماء في مؤلفاتهم الجديدة ، ومكتشفاتهم في المعامل والجامعات والتى جعلت من وطننا نموذجا للدول العظيمة التى تنتعش فيها روح التعددية المتناغمة حين ينبض قلبها بالإيمان الديني العظيم ويتطور عقلها كل يوم مع إضافة كل إبداع يصدر من قلم المفكر والكاتب والاديب.
ثالثا : : أيها السادة والسيدات: ونحن نحاول أن يقترب كل أفراد المجتمع من بعضهم لابد أن نتفق أن أول خطوة نحو صياغة فلسفة لحياة أكثر تفاهما وتسامحا يجب أن تكون في إعادة اكتشاف كل منا للآخر ، كما أن عملية تبادل المعلومات والخبرات حول الذات والآخر تعنى لا محالة تبدلا مستمرا في أفكار الاثنين معا، وعندما يكتشف كل منا أخاه سنكتشف جميعا كم هي واسعة وشاسعة ورائعة حجم الشراكة الحياتية بين الإنسان والإنسان، وكم يمكن أن تكون تلك الشراكة متناسقة ومتوافقة ومنسجمة وبعيدة عن الميل المندفع نحو الإخضاع والسيطرة برغم تنوع واختلاف الثقافات والديانات والأجناس . وحين نتحدث إلى النخبة الثقافية والسياسية باعتبارها قاطرة التقدم يجب أن يكون التركيز على ثقافة الواجب قبل المطالبة بالحقوق ، وثقافة الواجب تجعل للحمة الحضارية والنسيج الاجتماعي هنا في استراليا أولوية مطلقة ، كما تجعل من تحقيق العدل والحرية واحترام القانون وحماية الأمن وبذل المحبة للآخرين في مقدمة الواجبات التى نري أنها تنطلق في نظرنا من التدين الصحيح الذى يوجب الحب على أتباعه تجاه الآخرين . ونحن كجالية إسلامية نعتبر أمن استراليا جزءا من ثقافتنا وواجباتنا الأخلاقية ، وديننا يدعونا كمسلمين أن نتعامل مع معتقدات غير المسلمين على أنها محميات طبيعية لا يجوز اقتحامها على أصحابها، ولا يجوز سبهم في معتقداتهم فضلا عن العدوان عليهم، وبهذا فنحن نؤسس لقانون أخلاقي يحمي عقائد المخالف ، ويحترم اختلافه معنا واختلافنا معه، وهذا القانون الاخلاقي يظهر أعلى تجليات الحكمة والتسامح ورحابة الصدر وسعة الافق التى تحمى نسيج المجتمع وتحافظ على تعدديته الثقافية والدينية والحضارية.
رابعا : اذا كان صموئيل هنتنتجون قد دعا لصراع الحضارات فإننا هنا في استراليا وبكم ومعنا كل الشرفاء في العالم نستطيع أن نقدم نموذجا رائعا لتكامل الحضارات بتنوعها وخصوبة أفكارها وتعاون قيمها وتعدد أجناسها ، ونذكركم بأن الحضارة الإسلامية بثقافتها المنفتحة قد استوعبت الثقافة اليهودية والثقافة المسيحية ،وقد ذكر المؤرخ و الكاتب الألماني آدم ميتز في كتابه " الدعوة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أن عيسى بن نسطورس وهو مسيحي كان وزيرا للمأمون ومستشارا له، وأن موسي بن ميمون وهو يهودي كان طبيبا للخليفة ووزيرا له. كما اننى لست بحاجة إلى التذكير بأن الحضارة الإسلامية بثقافتها المنفتحة هى التى قدمت للدنيا سقراط وأرسطو وغيرهم برغم اختلاف الدين واللغة والجنس ولولاها ما عرف العالم سقراط وأرسطو وغيرهم ،
خامسا : أيها السادة والسيدات . دروس التاريخ تعلمنا أن مستقبل البشرية يتعرض للعواصف والأعاصير يوم أن تخلو الارض من توجيهات السماء ، وأنه لا يكفي في دلالة الناس على الله ودعوتهم إليه أن نحدثهم عن مجد السماء ، بينما هم يعيشون في أكبر سجن في التاريخ ، حيث لا ينكر الاحتلال حقهم في الاستقلال والتحرر والحياة الكريمة. وفقط ،وإنما أرضهم محتلة وبطونهم خاوية والاحتلال يمارس ضدهم أبشع الجرائم الوحشية خنقا وقتلا للنساء والأطفالوهو ما يحدث الآن في غزة . نعلم يقينا أيها السادة أن مبادئ الفساد تنتشر بين الجماهير يوم أن يتخلى أهل الأديان والعقلاء عن مناصرة الحق والعدل والوقوف بجانب المظلومين في كل مكان ، ولذلك ننتظر منكم موقفا يدين العدوان الغاشم ، ويطالب بمحاكمة المسئولين عنه . وإذا كان السلم الإجتماعي هو الإبن الأكبر للعدالة الإجتماعية ، فإن العدل والحرية واستقلال الشعوب هم الأسرة التى تنجب السلام العالمي وبخاصة بين الشعوب التى تعانى من الاحتلال والظلم، كشعب فلسطين ، فإذا أردنا حقاً أن ندخل بالإنسان إلى ملكوت السماء فعلينا أن نقيم عدالة الله في الارض، وأن نناصر حقوق الانسان عموما ، وبخاصة حقه في الاختيار الحر، وأن نحرر إرادته وإنسانيته من رق الشهوات وعبودية البشر والاحتلال البغيض. سادسا : نحن جميعا كنخبة ثقافية وكقاطرة للتقدم والنهضة وكمراكز للقرار ، نحتاج أن نتذكر دائما فضائل الآخرين، كما نحتاج أن يقرأ كل منا آخاه قراءة صحيحة بعيدة عن تأثير الإعلام الموجه ومراكز البحث التى تخصصت في إزكاء الكراهية وخلق بؤر للصراع ودفع العالم إلي حروب عبثية ، وهي مراكز لها أذرع في التوجيه وصياغة الرأي العام ليست بريئة ، وتحرص على أن تقدم لكل منا عن أخيه صورة مشوهة تحجب رؤية الحقيقة وأحيانا تزكم الأنوف.
السادة الحضور ، أري أن بلدنا استراليا يمكن أن تكون قناة جيدة التوصيل لنقل مبادئ الحرية والعدالة والسلام، كما أنها يمكن ان تكون جسرا شامخا لنقل مبادئ التعايش السلمي والتناغم المجتمعي حيث يري العالم في أتراليا كيف تنتعش المحبة على أرض القارة الخضراء ، كما يري كيف يتعايش طائر الكوكتيل الطيب بجوار الكوالا والكانجرو ، كما تتعايش أجناس البشر . . شكرا لكل صاحب فكرة تدعم التسامح وتكرس العدل وتتبنى بالحب والاحترام الروابط الإنسانية بين الجاليات المختلفة ، ونؤكد أن التعاون بين رموز الأديان يمكن أن يساهم في حماية المجتمع من مخاطر كثيرة في مقدمتها العنف والمخدرات وموجات الانحرفات الأخلاقية التى تريد تغيير نمط الحياة الطبيعية وتهدد المرأة والأسرة بشكل مخصوص ، شكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله .