ليس هذا حديثا عن كذبة التنسيق والتدبير المسبق بين الثورات العربية ومراكز التجسس الغربية، وعلي رأسها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ذلك إفك إفتراه ثم أشاعه أصدقاء أمريكا لإسقاط مشروعية تلك الثورات، وهو إيغال لا مبرر في مسارب ومثالب نظرية المؤامرة، بل نظرة دونية للشباب العربي تسلبه ملكة الفعل وتحبسه في ربقة رد الفعل، وعموما فإن حديث الإفك هذا عما قبل الربيع العربي، وحديثي هنا عما بعد. الثورات العربية عمل شعبي تحرري ضد نظم مستبدة ومستمرة منذ عقود دون تنمية حقيقية لمجتمعاتها، وضد حاكم فاسد وبطانة أفسد منه اختارها لإدارة مشاريعه، لا مشاريع الوطن، ثورات ضد ضياع الدين والحقوق وشيوع الظلم وتفشي الفساد، تقوم بها شعوب تستحق الحياة وترفض أن تعيش أبد الدهر بين الحفر، وكأي ثورة لابد أن يكون لها أعداء في الداخل والخارج، كل مستفيد من النظام السابق، وكل راغب في تطويعها لمصالحه. هل سيحاجج أحد في عداء أمريكا (وإسرائيل) للثورات العربية، لينظر إذن إلي تحالفها، كقوة امبريالية مع النظم العربية الفاسدة، واحدة أعلنت فقدان كنزها الاستراتيجي بسقوط نظام مبارك وأبدت خشيتها من أن يتبعه نظام الأسد، والثانية ظلت وفية لنصف قرن وأكثر لمبدأها بإفساد أي توق عربي للحرية، معادلة التحرر العربي والاستبداد الامبريالي معادلة صفرية، وجود أحدهما يلغي الآخر، والخشية حقا أن تقود الأحداث إلي ظهور حلفين جديدين في المنطقة، حلف ملكي وآخر للديموقراطيات المتوقعة من الربيع العربي، حلف قديم مترسخ متمرس علي ألاعيب وحيل السياسة ومتحالف مع قوى خارجية امبريالية، وحلف واعد لجمهوريات غضة تتلمس طريقها نحو التكون والتثبت، غير أن الرهان هنا ليس علي القوة العسكرية والأمنية بل علي قوى الشعب المتعددة، وعلي من يشك مراجعة عدد ضحايا كل ثورة عربية، الشعوب قادرة علي اجتراف المستحيل، من كان يظن أن قوة ميدان التحرير ستجبر الفرعون علي التنحي، وأن قوة ما حدث في شوارع تونس، وفي كل شارع عربي قادم، سيجبر الطاغية علي الهرب، الرهان علي الموقف الشعبي، مدى تماسكه وتصميمه علي إكمال ما بدأ، يفهم هذا ويعيه كل من عليه للوطن يد سلفت ودين مستحق. هذا عربيا أما أمريكيا فمن الخطأ الظن أن الأزمة المالية أو حروب أمريكا ستدفعها إلي الجنوح إلي السلم وتغيير سياستها كما بشر أوباما في حملات انتخابه، بمعنى تراجعها عن فكرة الهيمنة، فأمريكا منذ عقود وهي تعيش عالة علي اقتصادات الغير، منذ تجاوز استهلاكها مستوى إنتاجها، بل ويكاد دينها العام أن يتجاوز حجم إنتاجها القومي، وبعد سنوات قلائل ستتجاوز خدمة الدين العام فقط أكثر من 50% من حجمه، هذا يعني بكل بساطة أنها دولة تنهار، وهي تطبع من الدولارات مجرد قيم ورقية تزيدها عجزا. لا سبيل أمامها للاستمرار سوى استغلال قوتها العسكرية وقوتها الناعمة للإتكاء علي الشعوب الأخرى والعيش علي حسابها، بل هي تخوض حروبها بتمويل من الآخرين، إن لم تطلب من بعضهم الحرب بالوكالة عنها. أطماع أمريكا، التي تسميها مصالح، في المنطقة لن تسمح لأي ثورة شعبية أو غير شعبية، أو لأي انقلاب، أبيض أو أسود، علي السلطة القائمة دون موافقة القادمين الجدد علي شروطها وطلباتها، التي تعني في التحليل النهائي القبول بتبديد ثروة البلد علي مصالح أمريكية، أو اتخاذ مواقف في قضايا تهم أمريكا، وليس لها قضية هنا سوى النفط و(إسرائيل). تذكرون ولا شك فكرة الفوضى الخلاقة التي فجرتها سمراء أمريكا الأنيقة كوندليزا رايس منذ بضع سنوات لتدشين بناء الشرق الأوسط الكبير، كوندي التي سألها أحد رجال الكونجرس في جلسة الموافقة علي توليها حقيبة الخارجية عن الذي تنوي فعله في سياسة أمريكا الخارجية، أجابت بوضوح "تغيير حلفائنا". هل كان ذلك جنونا؟ أقصد السعي بخلق فوضي في منطقة يخضع لك جل حكامها وتتصرف فيها تصرف السيد المطلق؟ لم يكن جنونا كاملا، سمه إن شئت مغامرة يمكن التحكم في مخرجاتها، اكتشفت أمريكا أن المنطقة تكاد تنزلق من بين يديها وهي تغرق في أوحال العراق وأفغانستان، استغل الصينيون والروس، بل بعض حلفائها الغربيين لحظات انشغالها بحروبها الجديدة، لتوطيد موقع قدم لهم في أماكن نفوذها سواء في آسيا أو أفريقيا، لاحظت كوندي أنه برغم أن معظم حكام وشيوخ المنطقة طوع بنانها الأسمر الجميل، إلا أن أرجلهم علي العروش مهتزة وأيديهم علي كراسي الحكم مرتعشة، وصلوا، لفرط تنازلهم وانبطاحهم، إلي نهاية مسدودة مع شعوبهم، شعرت كوندي، مهندسة سياسة بوش الابن الخارجية، أن الهوة تزداد بين الشعوب والقادة، جربت التدخل الجراحي بحد السيف في العراق وفشلت، نجحت فقط في خلق فوضى تتيح لها مواصلة نفوذها، سياسة الإغراق في الديون لم تعد تجدي بعد أن باتت قيمة الدين تسجل في حسابات الرؤساء ويقسط دفعها من المال العام، وأمر الاحتجاجات الشعبية محسوم لأن حراس الأمن منتبهون والمغارة مازالت مليئة بالذهب والنقود والمال الموعود والنفوس الصدئة كثيرة والذمم القابلة للإفساد أكثر، بيد أن لكل طريق نهاية ولكل وقت أذان ولكل دولة شباب، لم تجد كوندي، والحالئذ، بدا من فرض فوضى خلاقة تتيح لأمريكا التحكم في الشعوب بدلا من الحكام. السؤال الملغي: "هل الثورات العربية هي نتاج هذه الفوضى الأمريكية؟"، وربما، أقول ربما، شكل هذا السؤال خلفية الزعم بتنسيق مسبق، أما السؤال الحقيقي والواجب مواجهته: " هل يمكن لهذه الثورات أن توقف هذه الفوضى الأمريكية؟، وهو ما يشكل التحدي الأكبر أمامها". لن يجادل مطلع علي عدم وجود اختلاف بين سياسة أوباما وسياسة بوش، الرئيس الأمريكي لا يرسم سياسة ولا يخطط، هي تفرض عليه ولا يمكنه حتى تعديلها، هو مجرد سلطة تنفيذية ككل الدول البرلمانية، الفارق بين الرئيسين مجرد قفاز حرير؟ قارنوا بين خطاب أوباما في جامعة القاهرة وبين خطابه الأخير عن أحداث المنطقة، نادي فيه بدولة فلسطينية نعم، ولكن دولة من ورق كقادتها، هل تحدث عن تراجعه في مسألة الاستيطان، صحيح أنه رحب بالثورات الشعبية ولكنه أقر خططا لاحتوائها وتفريغها وتشتيتها. في أواسط أبريل الماضي أدلى سكوت كاربنتر مدير مشروع "هزيمة التطرف من خلال قوة الأفكار" في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهو مؤسسة فكرية للوبي الصهيوني في أمريكا، أدلى بشهادة أمام مجلس القوات الأمريكية حول التحولات السياسية في الشرق الأوسط، محددا ثلاثة مصالح إستراتيجية لأمريكا في المنطقة: ضمان تدفق النفط، الدفاع عن (إسرائيل)، تطوير تعاون مستمر مع حكومات المنطقة لمكافحة الإرهاب وما يغذيه من اديولوجيات، أليست هي مبادئ بوش الابن والأب ومن قبلهم ومن سيأتي بعدهم؟ ثم يوصي كاربتنتر، وهنا الشاهد، بعدم الوقوف أمام الثورات العربية بل بركوب موجتها انتظارا لفرصة امتطائها وتوجيه بوصلتها. هذا ديدن سياسة أمريكا الخارجية منذ نشوئها وحتى الغد، ستحاول، لا ريب، تحويل الثورات العربية إلي حال من الفوضى الدائمة، فإن لم يكن فتكبيلها بالديون، وإلا فإن آخر الدواء الكي بحرب أهلية وصراعات طائفية تمزق شمل الأمة وتبقيها رهينة للخيارات الخارجية، غير أن هذا شأن أمريكا، لها أن تخطط بما تريد لتحقيق رغباتها، ماذا عنا نحن، هل لنا شأن أو تخطيط أو رغبة؟ أزعم أن ذلك ممكن وممكن جدا اليوم أكثر من أي وقت مضى، والأمل ينبثق من فوح هذا الربيع العربي الباسم، صحيح أنه دموي وله ضحايا وفيه قروح ودموع ولكن ثمنه الحرية لوطن يستحق أن تعليه فوق هامتك، ولأنها حركة شعبية بعيدة عن الأحزاب المتكلسة، وعن مناضلي فنادق الخمسة نجوم، وعن محترفي العهر السياسي، فإن الأمل كبير بنجاحها إذا تنبهت لما يكاد ضدها. من المبكر جدا الحديث عن نجاح الثورات العربية في تحقيق أهدافها، إلا أن ما تم حتى اليوم يمكننا من التفاؤل بالخير لنجده، في انتظار أخبار طيبة من سوريا واليمن وليبيا، وما قد تجود به العوازم في بقية العواصم، يظل ما يأتي من تونس ومصر يحمل إشارات طيبة إلا أنها غير مكتملة، كنقص القادرين علي الكمال. في الحالة المصرية لدي مؤشرين أو مثلين ايجابيين لنجاح مرحلة ما بعد إسقاط النظام، الأول فتح معبر رفح الذي، وإن جاء كمكافأة متأخرة علي توقيع حماس للورقة المصرية القديمة، إلا أنه فتح بطريقة لم تكن ممكنة في ظل النظام السابق، وأعطى أول إشارة لنية مصر إستعادة سيادتها علي أرضها، المثال الثاني الانفتاح نحو إيران وهذه كانت من التابوهات في ظل النظام المخلوع، وأعطى إشارة لنية مصر إستعادة إستقلال قرارها، صحيح أنهما مجرد مؤشرين ونوايا طيبة إلا أن ثباتهما والبناء عليهما سيعني الكثير، المضي فيهما سيعني عودة مصر رقما مهما في المنطقة، إن لم يكن الأهم علي الإطلاق. التوجه، حتى لا أقول التحول، نحو إيران يعتبر قرارا إستراتيجيا ويوحي بسعي مصر نحو استعادة دورها الإقليمي الذي لن يتم إلا باتخاذ موقف مغاير من الدولة اليهودية التي ترتبط بها بمعاهدة دولية تسلبها حق سيادتها العسكرية علي سيناء، والمطالبة بإلغاء معاهدتي كامب ديفيد ليست شيئا جديدا، سبق للمعارضة المصرية طلبها منذ زمن، ولكنها الآن قد تُتبنى من قبل رجال في الحكم. هذا لا يعني الذهاب إلي الحرب غدا مع (إسرائيل)، والتوجه نحو إيران لا يعني معاداة الدول الخليجية التي هي نفسها تقيم علاقات دبلوماسية واسعة وتجارة كبيرة مع إيران، معناه الوحيد عودة مصر كدولة اقليمية كبرى ثالثة في المنطقة، فإن لم تعجبنا (إسرائيل) لسبب ديني عنصري، وإن لم تعجبنا إيران لسبب مذهبي حركي، فلعلنا نجد في مصر مبتغانا. إيران، شئنا أم أبينا، دولة كبرى في المنطقة، لم تستطع أمريكا سوى مهادنتها وتحاول دفعنا نحن العرب، الخليجيين تحديدا، إلي محاربتها، كم مرة لوت أمريكا أعناقنا عن سلاح نووي جاهز لضرب ظهورنا إلي سلاح نووي في طور التكوين ولن يكتمل، إذا كتب له الاكتمال، إلا بعد عشر سنين، كم مرة حذرتنا أمريكا من الشيعة وكم مرة حذرت الشيعة منا، ذات المسرحية الهزيلة تتكرر علينا "فرق تسد" ونحن نلوكها مرارا وتكرارا في إعلام تمرس علي قيادة وعينا وتكييف قناعاتنا ورسم خطوط تفكيرنا وتسطيح أفكارنا. إيران قوة إقليمية تتعاون مع أمريكا، وربما، أقول ربما، مع (إسرائيل) ولن تكون الوحيدة من دول المنطقة في التعاون معها، ولكنها تفعل كل ذلك خدمة لمصالحها العليا وفرض كلمتها في المنطقة، كيف يستقيم لوم مصر علي التعامل مع الكبار بندية صيانة لمصالحها العليا مع عجزنا نحن عن فعل ذلك. المضحك المبكي في الأمر أنه فيما العالم يتقاتل أو يتفاوض أو يتعاون للاستفادة من منطقة الخليج واقتسام خيراته وتوزيع المصالح فيه، انشغلنا نحن بحرب تسمية الخليج، هل هو الخليج العربي أم الفارسي أم الإسلامي، ليقدم لنا قادتنا، حلا لمعطلة التسمية، فقرروا في مجلس تعاونهم أن يسموه الخليج الملكي. • كاتب ومفكر سعودي