للعامة حكمتهم الكامنة فيما وراء الألفاظ والكنايات العامية من إيحاءات ورموز ساخرة ، تعكس نظرة واعية ؛ وإن كانت تكتفي بالسخرية ولا تزيد . ومن الألفاظ الشعبية اللاذعة ، التي تحمل شحنة لا بأس بها من الوخز كلمة : أليط .. يطلقونها على الشخص المنتفخ كبرا ، المرتفع صدرًا ، المعني بملابسه أكثر من اعتنائه بمضمونه وحقيقته . فهم يقولون : فلان أليط ، وهم أُلطة – على وزن همزة ولمزة – ومصدرها العامي : ألاطة.. يربطون ذلك كله بجذر شعبي يوصف به الشخص الآدر ... والنخبة كما وردت بالمعاجم ( وبستر 440/ 1994 – لونجمان 415/1993 ) هي مجموعة أو جزء من مجموعة مختارة تكون أكثر تميزًا – عرقيًّا أو وظيفيًّا أو اجتماعيًّا – قياسًا بحجمها .. وهي – في الواقع الذي نراه – قد تكون انتسابًا أسريًّا ، كالأتراك وأسرة محمد علي – أيام زمان – وبعض الأسر الحاكمة حاليًّا ، من أولئك الذين يصعب أن يتزوجوا من غيرهم ، أو يخالطوهم بسهولة ؛ إحساسًا بالتميز والنخبوية . - وقد تكون نخبة اصطناعية ، افتعلتها مجموعة فكرية كاليساريين (بتوع الستينيات) الذي اصطفّوا الآن إلى جهة اليمين ، وصاروا خواجات ربما أكثر من الخواجه توني بلير نفسه . - وقد تكون مجموعة منسوبة لمصدر ثقافي مشترك كخريجي أوكسفورد أو كمبردج ، أو الجامعة الأمريكية في القاهرة التي أخرجت نخبة تحكمت كثيرًا في المسار الفكري والسياسي العربي في الآونة الأخيرة ، منها : قسطنطين زريق وجورج حبش وليلى شرف ونديم البيطار وأحمد الخطيب ووديع حداد وهاني الهنداوي ناهيك عن الموالين اللصيقين كسعد الدين إبراهيم وسعيد العشماوي ، وغيرهما من الإخوة المتعاونين . - وقدتكون النخبة من رؤوس المنتسبين لحزب سياسي يضع نفسه فوق الأمة ، وفوق الأحزاب ، وفوق التاريخ والجغرافيا ولافتات الأممالمتحدة والمنطق والعقل والشرع . - وقد نكون من السالكين في منظومة وظيفية ذات خصوصية كأساتذة الجامعة الذين أتمنى أن يكتب عنهم رجل منهم ، فيه نوع إنصاف من النفس ، وإحقاق للحق ؛ ليكشف لنا عن كثير من التهافت والتفاهة ، والزور المقنع بأقنعة من المنهجية الكذوب. - وقد تكون جماعة دينية ترى نفسها الأعلم والأسلم والأتقى وتنظر لغيرها من المسلمين العاملين للإسلام ، أو المشغولين بهموم الحياة نظرة استعلاء هي مزاجٌ من الشفقة و"القنعرة" والإحساس بالزعامة ، والرغبة في فرض الذات ، وتدخل الآخرين جهنم من أوسع أبوابها ، أو على الأقل تراهم يستحقون ذلك . وقد تبلورت في مصر منذ أوائل القرن طائفة وصفت نفسها – أو وصفها الإعلام – بأنها الصفوة أو النخبة Elite- ولعل العامة أخذوا منها لفظ : أليط ، إن لم يكونوا قد اشتقوه من وصفهم للآدر ، الذي تثقله أدرته ، فيقوس ظهره للوراء ، ويرفع رأسه لأعلى !! وهؤلاء الناس (الإيليت ) اشتهروا بأنهم يحملون همّ الثقافة والارستقراطية – وإن خرج كثير منهم من أعماق الريف – فصار أحدهم يتهم أهله بالتخلف ، ويتأفف منهم ، ويحتقرهم ، وبات أعظم طموح هذا المنسلخ أن يجالس أهل الصالونات من ذوي الملابس الرسمية ، وأن يصب نفسه في قوالب الكبار ( الفرنسيين والإنجليز والأسرة الحاكمة آنذاك ) فهو يتشدق بألفاظهم ، ويحاول أن يمشي مشيتهم ، ويلبس لباسهم ليصير كالغراب الذي هجر مشيته كي يقلد مشية القطاة ، فنسي هذه وعجز عن تلك . وقد سخر العبقري عبد الله النديم – رحمه الله – من أهل الألاطة في العدد الأول من " التنكيت والتبكيت " من خلال شخصية ( مسيو زعيط ) الذي عاد من أوروبا مصابًا بالصَّعر من عوائد أهله ولغتهم ، وأحوالهم ، ونسي اسم البصل الذي تربى على (فحوله) فأخذ يحدث أمه البسيطة عن ذلك البتاع : - اسمه إيه يا بني ؟ الفلفل ؟ - نو .. نو .. ال .. دي .. البتاع اللي ينزرع . - الغلة يا بني ؟ - نو .. نو .. دي اللي يبقى له راس في الأرض - والله يا بني ما فيه أونيون ... دا لحم ببصل - سي سي .. بصل .. بصل !! وعبر هذه النخبة ظهر من يؤيد الاحتلال الإنجليزي لمصر بقوة ومن كان يدعو للانتساب للغرب ؛ كفرًا بالشرق ، ومخاصمةً للجغرافيا ، والتاريخ والوطنية ، والواقع ، والدين ، ومن كان يلعن "سنسفيل" الإسلام والمسلمين . وعبرها ظهرت بواكير الدعوات المتمردة على الإسلام عقيدةً وشريعة ومنهاج حياة : الدعوة للعامية، والدعوة للفرعونية والدعوة للعلمنة .. إلخ ثم تبلورت هذه النخبة بعد ذلك في قوم مغسولي الأدمغة والقلوب ، والتوجهات ، استزرعوا فيما وراء البحار ، وتعرضوا لعملية تلقين هائلة ، عادوا بعدها نخبويين صفويين أليطين ، يستنبتون في البلاد الشيوعية والإلحاد ، أو العلمنة والحداثة والاغتراب ، بدلاً من الأصالة والرغبة في الانبعاث ومقاومة السلبيات . وإنك لواجد الكثير من الحديث عن هذه النخبة (النرجسية) كثيرًا في مظانّه ، وهي ليست محور حديثي ؛ بل إن لي حديثًا عن نخبة أخرى تعيش على الإسلام ، وتظلمه ، وتوهم نفسها والآخرين أنه بدونها لن يكون إسلامٌ صحيح ، ولا فكر قويم ، ولا رؤية صائبة . ونحن إذا تحدثنا عن الانتخاب المبني على جملة من المزايا الموجبة للتميز ، لقلنا – دون تردد - إن أعلى النخب التي عرفها البشر هي نخبة ( المصطفين الأخيار ) وعلى قمتهم سيد الأولين والآخرين محمد ( المصطفى ) عليه وعليهم صلوات الله وسلامه ، فقد كانوا نخبةً إيمانية وعقلية واجتماعية ، انتخبها واختارها – بعد أن صنعها على عينه - العليم الخبير سبحانه . وقد تحدث القرآن عن اصطفاء هذه النخبة في عشرة مواضع منها قوله تعالى : [ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار] (ص: 47 ) ، وقوله تعالى : [ إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ] (آل عمران : 33) وغير ذلك . ووردت لفظة : الاختيار – أيضًا - بمعنى الانتخاب للبشر المميزين سبع مرات ، مثل قوله تعالى : [ واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا] ( البقرة : 155) ، وقوله تعالى : [ وأنا اخترتك ، فاستمع لما يوحى ] (طه : 13) . كما ورد ما يفيد معنى الانتخاب والاصطفاء في السنة المشرفة كقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، ولا فخر بيدي لواء الحمد ولا فخر . وما من نبي يومئذٍ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ) ( الترمذي : 3618/ مناقب – بسند حسن ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام : [ أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي .. الحديث ] ( البخاري 1/369، 370- مسلم 521 ، النسائي 1/210 ) وقوله صلى الله عليه وسلم :[ إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفسًا ، وخيرهم نبيًّا ] راجع المزيد في جامع الأصول 8/ 525 وما بعدها . لذلك فإن الصفوة من الرسل والأنبياء هم سادة البشر الحقيقيون – وإن رغمت أنوف الذين انتقصوا منهم ( في هوجة) الكتابات الأخيرة – أرقهم قلوبًا ، وأصفاهم نفوسًا ، وأكثرهم مزايا ، وأعلمهم برب البرايا سبحانه وتعالى . ويلي هذه النخبة – التي يستحيل أن تنافس – نخب من الحواريين وأتباع الأنبياء ، الذين عزّروهم ، ونصروهم ، وآثروهم على الأبناء والآباء والناس أجمعين ، ثم الإضاءات التاريخية لمجموعات من العلماء والأئمة ، يلمعون في سماء الأمة عبر تاريخها الماضي والحاضر والمقبل .. وإذا كان بين هذه النخب من قاسم مشترك ؛ فإنه العلم بالله تعالى ، والرفق بالناس ، وحب الخير والحق ، والانكسار والتواضع مع الخلق ، فلا ترفّع ، ولا استكبار ؛ حتى إن الجارية كانت تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم تطوف به في المدينة ما يمتنع منها ، وحتى إنه صلى الله عليه وسلم دعا أن يكون مع المساكين ؛ فهم مادّة الإسلام ، وعصبه ، يدخلون الجنة قبل غيرهم بكذا وكذا من السنين . واقرأ عن مناقب أولئك في أبواب المناقب في كتب السنة كلها ، وفي الاستيعاب ؛ وأسد الغابة ، وجامع الأصول ، وأخلاق العلماء للآجري ، وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين وفي جامع ابن عبد البر ، وسير أعلام النبلاء وغيرها تجد العجب العجاب عن تمز نخبنا التي نباهي بها ، من المرسلين والأصحاب ، والتابعين ، والأئمة المرضيين . ولعل من أعظم ما يميز الرجل كبير الهمة ، راجح العقل ، غزير العلم ، أنه متواضع قريب لين ، تستطيع – بسهولة – أن تحادثه ، وتؤاكله ، وأن تجد منه طلاقة الوجه وحلاوة اللسان . ولا ينبسط للكريم إلا الكريم ، ولا يتواضع للناس إلا العظيم ولا يبكي من أجل الناس إلا الرحيم .. أما اللئيم فهو غير ذلك ، أما (النخبوي أونطة) فهو غير ذلك : جلس النبي صلى الله عليه وسلم مع مستكبر يأكل بشماله ، فلما قال له : كل بيمينك ، ضرب عليه عرق الهيافة ، والإحساس بالذات ، فقال من طرف أنفه : لا أستطيع ، فدعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم : لا استطعت ، فما رفعها إلى فيه . وأحمق (نخبويٌّ) ثان يمر بمالك بن دينار ، وحين رآه مالك معجبًا بنفسه قال له : شوية شوية : رويدك أن ينفجر فيك عرق ، أو تطير كالبالون في الهواء ، فاستدار أخونا المنفوخ ، وهو يهز الميدالية الذهبية ، ويثبت النظارة الكارتييه على أنفه ، ( وخَنَف ) في عتوّ ونفورّ: إنت مش عارف أنا مين ؟! فقال مالك : بل أعرفك جيدًا ، ولا يخفى عليّ أصلك : كنت نطفة مهينة مذرة ، وتصير جيفة مدوّدة قذرة ، وأنت فيما بين الكون والصيرورة تحمل بين جنبيك العذرة ، فبهت الذي انتفخ . وقد يؤدي هذا الإحساس بالنخبوية (والعنطظة) إلى درجة إبليسية ، تذكرنا بغباء إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين : مرت امرأة لا تعرف الطريق جيدًا ، فسألت أحد المارة : يا عبد الله : كيف الطريق إلى مكان كذا ؟ فقال لها في أبلسة نخبوية : أمثلي يكون من عبيد الله ؟ ! ومنفاخ آخر خطب الناس بالبصرة فأحسن وأوجز ، فنودي من نواحي المكان : كثّر الله من أمثالك ، فقال – وبئس ما قال - : لقد كلفتم الله شططًا !! وأنا لا أشك في أن هذه النخب – وإن ارتفعت في بعض السنين –لأنها أحسنت التسلق ، فإنها تنكشف ، وتنفضح ، ويخرج الله – ثم التاريخ – ما كان خبيئًا .. لكن ما يوجع قلبي ، ولا يسيغه عقلي هو أن روح الاستعلاء نشبت – حتى – في حلوق نخبة من نوع آخر : أنيقة برغم حديثها عن البساطة ، مستنيرة رغم أن ذيولها رجعية (!!) مستكبرة رغم دعواها التواضع ، تتحدث عن حرية التفكير رغم كونها تصادر الآخرين ، وتغمزهم وتعزو أسباب تفكك الأمة ، وانكسارها الحضاري ، وتخلفها التقني ، والفني ، والزراعي والكروي إلى هؤلاء الآخرين !! إنها نخبة من المفكرين تعيش على العلم الإسلامي لكنها تترفع عليه ، وتقتات من التراث وتتنقصه !! وهي تمتاز بجملة ملامح تجعلها فصيلة مستقلة . ومن ملامح أولئكم البعداء أنهم : يتحلون – كما أشرت آنفًا – في نظرتهم إلى العمل الإسلامي بقدر لا بأس به من الاستعلاء ، والكبر ، وينظرون إلى فرقِهِ كلها تقريبًا بتشامخ ، ويكادون يحكمون عليها بأنها جميعًا هالكة ، وليس فيها خير ، فاسدة يأكلها السوس ، ترواح بين تشدد الخوارج ، والتنطّع السلفي ، والتساهل التبليغي ، والجهل الأزهري ، في حين يملك أحدهم – وحده – مفاتيح النجاة ، وصواب الرؤية ، وحسن الفهم ، وربما كتبوا هذه صراحة في بعض آثارهم . وكتاباتهم تعكس هذا الاستعلاء ، إذ يميلون إلى الإغراب والرمز والتقعر المفتعل ، ويفتشون عن حوشي الألفاظ ، ووحشي العبارات [ على طريقة النحوي بتاع : أصقعت العتاريف ؟ زقفلم ] يظنون أن هذا يضفي عليهم سيما الثقافة ، فالجمل وعرة متكلفة ، والمصطلحات عديمة الأصل والشرف ، تعكس روح التفيهق ، وتملأ الشدقين جميعًا لضخامتها ، وغرابتها ، والتصاقها بالحلق والأسنان ؟؟ جُسْ خلال كتابة أحدهم ، ولن تعدم سيلاً من الألفاظ من ماركة الإسلام الإسكولاستيكي ، والبطريكية الإسلامية ، والفكر الأرثوذكسي ، والاستلاب والاستبطان ، والفعل والأيض والغثائية والكهنوتية ، والانبطاح والإقلاع ، مما يجعل القارئ المحايد يجزم بأن سيدنا (المسقّف) إنما يكلم نفسه إذ لن يقرأ هذه اللغة المتكبرة إلا هو نفسه وبقية السادة المتورمين أعضاء نادي الألاطة – إن تواضعوا وقرؤوا – وأدعوك قارئي إلى أن تُمتع نفسك بوليمة حداثية متكبرة على مائدة محمد أركون ، أو حسن أبو خشبة – مجتهد الزمان – ومن يقلدهم من النخب الأليطة ، لتغثى نفسُك ، ولتصل إلى يقين بأن هؤلاء الناس أحد اثنين : فإما أنهم لم يفهموا شيئًا من الإسلام على الإطلاق ، وإما أن العالم كله – قبلهم – لم يفهم شيئًا منه . وأذكر أنني حضرت ندون عن الثقافة في إحدى الجامعات ، شارك فيهاعدد من مدمني هذه العبارات اللزجة ، واستمرت لثلاثة أيام طلعت فيها روحي وكنت خلالها أستغيث الله : ويلكم ماذا تقولون ؟ وفي ختام الندوة قام رجل مباشر ، واضح ، سهل العبارة ، اسمه يوسف القرضاوي ، فتكلم بمفردات شديدة السهولة ، شديدة الوضوح ، شديدة الإقناع للعقل والقلب ، فاندهشت وقلت : سبحان الله ! هذا الرجل يحمل (ألف دال ) وهم يحملون (الألف دال ) وهو مفكر وهم مفكرون ، فهو إما غريب عن الندوة وإما أن يكونوا دخلاء .. لكنني وجدتهم في نهاية الندوة يصفقون له ، رغم أنه مسح كلامهم بأستيكة ، وكان كالشمس تزيل الضباب ، وتوضح الرؤية ، ويهرب منها الأشباح علاقتهم بشباب العمل الإسلامي محدودة – إن لم تكن معدومة – وأزعم أن منهم من لم يجالس الشباب من سنين ، فهو رجل متبتل في برجه العاجي ، أو شرنقته النخبوية ، دون نزول فعلي للساحة ، فلا مسجد ، ولا محاضرة ، ولا درس ، ولا يحزنون ، وبضاعتهم الرئيسة هي الكتابة الاستعلائية الأليطة ، في حين تلح حاجة الجفاف الدعوي لعلماء دعاة يرشَّدون جموحهم ؛ حتى لا نعود لنبكي سوء الحال ، ونشتكي من تطرف الشباب الذين لا يعقلون ، ولا يحترمون ، ولا يقدّرون . فالتصويب الميداني ، والمناصحة العملية مسألتان ضروريتان حتى لا نكون كالذي يؤنّب شخصًا في مجاعة ، لأنه لا يأكل في طبق كريستوفل بالشكوكة والسكين ، والفوطة على صدره ، فيما المسكين يتضور حالمًا بحفنة أرز أو كسرة خبز ، لا ببسكويت المحروسة ماري أنطوانيت بنت معرفش مين . وهذا الترفع والتحليق غير المبرر يجعلهم – في كثير من الأحيان – أقرب لرموز العلمنة والاغتراب واليسارية ، يتحدثون عنهم بمنتهى الرفق والرقة ، والمداراة وهدوء الأعصاب ، في حين يتحدثون بعصبية (وقرف) عن ممارسات الجامدين المتزمتين ممن ينتسبون للعمل الإسلامي المسكين .. لقد رأيت أستاذًا يرأس كرسي الثقافة الإسلامية في السربون يلعن (أبو خاس ) جارودي في حديث عن الأساطير الصهيونية ، ويرفع – في الوقت نفسه – من سلمان رشدي ، ويعتبره مبدعًا جديرًا بالمساندة !! وقرأت لمن (يشمأنط ) حين يسمع اسم ابن باز في حين تتهلل أساريره عند ذكر الأسود العنسي والسهروردي وأبي نواس ، وسمعت من يتهم ابن تيمية بالفساد في حين يمدح (أبا عشم ) المجدد الصالح المصلح .. الجريء – كأضرابه – على السلف وأطروحاتهم ، الذين يتهمهم بمنتهىالدبلوماسيةوالمنهجية!! واللذع الأفعواني المهذب . وهم مولعون جدًا بالمؤتمرات ، والجلسات النخبوية ، مدمنون لهواية التوجيه والتقويم والترشيد والتنظير وال .. للعقل الإسلامي (الطايش) إنهم لامعون ، منشّون ومطرون ، يتسابقون للحديث من آخرين لا يهمهم كثيرًا التعرف على الإسلام – وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم – بقدر ما يهمهم الحصول على تنازلات ممن يتحدثون باسم الإسلام . وهم غالبًا الممثلون للعقل الإسلامي ، اشتروه ، وسجّلوه بأسمائهم وأسماء آبائهم في الشهر العقاري (بتاريخ الاستنارة) فهم في كل مؤتمر ، وكل ندوة ، وكل محل فيه فلاشات ، ومانشيتات وكاميرات دوارة ، وفضائيات ، وبرامج بث مباشر ( كده وكده ) . ومن ملامحهم التي تعكس تناقضهم : أنهم يطالبون بحوار عقلاني ، وتفاهم علمي ، وأخذ بروح الإسلام وخطوطه الكلية .. فإذا دار في مجلس حديث ينادي بإلغاء السنة ، فلا بأس ، هذه حرية رأي ، حديث يشكك في القرآن ، ماشي نعطيه فرصة ، يطعن في المعلوم من الدين بالضرورة ، وماله ؟ نحن نرحب بالحوار ، يعبث ويخنق التراث ، هذه مناقشة علمية ، وهذا حديث كبار وأساتذة جامعة .. فإذا جاء شاب مسكين يبحث عن التزام بسنةٍ في هيئته أو منطقه أو نظام حياته ، وظنوه قد أخطأ أو أساء ، فيا ويله ويا سواد ليله ، وهات يا ألفاظ من ماركة ضيق العطن ، والتسرع ، والتطرف ، وال .. وأخرجوهم من قريتكم .. اقتلوا الجاهل أو اطرحوه أرضًا !! وهم يملكون مقدارًا جيدًا من المرونة التي تنجي من الشدائد ، فهم دائمًا في (السيف سايد ) تصفهم (النخبة) العلمانية بالاستنارة ، والدعاة الفندقيون بالوعي واليقظة والخصوم المقاربون بالاعتدال ، ووسائل الإعلام (المنصفة) بأنهم المفكرون اللي مفيش بعد كده . إنهم قوم يحسنون التأتي ، ويملكون أنوفًا ذات حساسية لمعرفة اتجاه الريح ، وهي موهبة لا يملكها – عادة – السذج والمباشرون ، والمحتسبون . وهم يستطيعون – لا أدري كيف – الكلام في كل شيء ، في هموم الأمة الاقتصادية والخصخصة والبورصات ، وفي ملامح الخلل الاجتماعي ، والسياسة الشرعية ، ودقائق المسائل العلمية والتجريبية ، والديمقراطية الإسلامية والليبرالية المحمدية ، وحقوق المرأة وهيمنة الفكر الذكوري الاستبدادي وسعر الحرنكش وممارسات النظام العالمي الجديد ، وتصميم مركبات الفضاء ، وعيوب التصميم القديم لمحركات الديزل .. كل شيء يعرفون ، فلا شيء مستحيلاً ، ولا شيء يقال فيه لا أعرف .. تمامًا كاللغوي الخنفشاري الذي كان يستطيع – على البديهة – أن يأتي بشاهد من اللغة على أية كلمة ، فلفق له بعض العيال المشاغبين كلمة ، اختار كل واحد منهم حرفًا من حروفها ، ثم سألوه : يا مولانا النخبوي : أتعرف الخنفشار ، فأجاب دون أن تطرف عينه : إنه مادة ينعقد به الحليب ، قال ابن معرفش مين : لقد عقدت محبتكم بقلبي كما عقد الحليب الخنفشار ويله من ( باكس ) صفيق الوجه !! وحبايبنا النخبويون حريصون جدًا على المواقع المبهرة المدوية ، فتجدهم في المراكز العربية والعالمية قد أخذوا بتلابيب ونواصي كراسي الثقافة الإسلامية والعقيدة والفلسفة والإعلام وما شابه ، ورغم هذا فإن الكثرة الكاثرة – كما أشرت من قبل – غير مقروئين ، وغير اجتماعيين ولا معايشين للناس ولا للواقع والدعوة . لقد رأينا كبار رؤوس العمل الإسلامي – المؤثرين – أناسًا ( زيّنا) : أبناء نكتة ، وسماحة وجه ، وحسن معشر ، ومعايشة للواقع . وجدناهم أليفين مألوفين ، باشين ودودين ، فهل يتعلم أهل الألاطة ، أم يصرون على أن يبقوا بعيدين عن المجتمع والشباب والدعوة الميدانية الفعلية ، لا يتكلمون إلا من أنوفهم ، ولا يشيرون إلا بأطراف أصابعهم ؛ حفاظًا على (البرستيج) النخبوي المزعوم ؟!! ورغم أن الثياب والهيئة ليست مقياسًا نهائيًا وفاصلاً في الالتزام وعدمه ، فإنها – على كل حال – تبقى ذات دلالة ، فالثياب في كل المجتمعات وعند دارسي الأنثروبولوجيا هي بطاقة هوية ، تعكس المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعقيدي والأخلاقي للابسها .. لا شك في هذا .. وأهل الألاطة – في ظني – غير حريصين كثيرًا على مجرد اللمسة الإسلامية المميزة ، فلا لحية ، ولا شارب ، ولا أية علامة ، مع أن العربي يقول إن شبيه الشيء منجذبٌ إليه ، والطيور على أشكالها تقع ، ومع تصريح سادتنا العلماء بأن المشابهة في الزي تورث المحبة والميل لأهله . وتدفعني هذه النفثة إلى افتراض – لا قدر الله – أن يتبلور اعتقاد فكري عام في فترات مقبلة بأن النخبة ستعتبر نفسها جماعة الحق الوحيدة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عن الحق ] وبناء عليه سيطالبون بقمع صور الباطل والجهل والضلال معتزلة المأمون الذين سجنوا العلماء وذبحوهم وأرهبوهم .. رغم إعلاء المعتزلة للعقل والعدل والحرية .. ولماذا أفترض ؟ إنه فعلاً حاصل .. يالله للعقل والحري