هذا هو موسم كرة القدم العالمي بامتياز حيث يُقام كأس العالم في البرازيل. أيام ممتعة تأتي كل أربع سنوات تشهد صعود وهبوط إمبراطوريات كروية، مثل صعود وهبوط الأمم والحضارات، كما تشهد بروز وتفوق دولا تقع في حزام التخلف على دول في قمة التقدم والثراء، والمؤسف أننا في مصر مازلنا بعيدين عن هذا العرس الكروي، وأخشى أن يصير ذلك عقدة تاريخية تستعصي على الحل. مقصد المقال ليس التحليل الرياضي المباشر عن كرة القدم ومونديالها، إنما الحديث عن إمبراطورية أخرى إعلامية اسمها "الجزيرة الرياضية"، أو " بي إن سبورتس"، وهو الاسم الجديد لتلك الشبكة التي تتسع وتتوسع وتصير واحدة من الإمبراطوريات الإعلامية العالمية، وباتت تملك الكثير من النفوذ والتأثير ، ويكفي أنه لا أحد يستطيع متابعة كأس العالم في الشرق الأوسط إلا من خلال هذه الشبكة التي تعمل بأسلوب عالمي في نقل المباريات وفي استديوهات التحليل والمتابعات أولا بأول لكل ما يتعلق بالمباريات بواسطة نخبة من الإعلاميين والمعلقين والمحللين والخبراء المتميزين عربا وأجانب، ومن بين هؤلاء نجمنا المصري الكبير محمد أبوتريكة الذي يشارك من البرازيل في التحليل. الشاشة أمامي مفتوحة على قنوات "بي إن سبورتس"، وقد تراجعت شاشة السياسة والمحطات الإخبارية العربية، والمحطات المصرية أيضا، فليس هناك إثارة نظيفة أفضل من إثارة الكرة، وهي أرحم للسمع والعين والعقل من إثارة واستفزاز وأكاذيب وتضليل وشتائم واتهامات تُطلق على عواهنها وخروج عن قيم الإعلام الموضوعي العادل في العديد من البرامج على القنوات المصرية، والأصوات ترتفع اليوم مطالبة هذا النوع من الإعلام بضرورة تصحيح مساره وخطابه وإلا سيفقد مشاهديه وسيتسبب في مزيد من الضرر للمجتمع. نجحت قطر في تأسيس إمبراطوريتين إعلاميتين : شبكة الجزيرة الإخبارية التي تضم قنوات عديدة بلغات مختلفة، وتغطي مساحات كبيرة من العالم، وباتت تلك الشبكة تستحوذ على المساحة الأكبر من المشاهدين ومن التأثير في المنطقة، وحجم الحملات والغضب عليها من عواصم عربية وأجنبية يكشف مدى تأثير وفاعلية خطابها الإعلامي. والإمبراطورية الثانية هي "بي إن سبورتس" ، أو "الجزيرة الرياضية" سابقا، والتي تحتكر الخدمة في كأس العالم، ودوريات أوروبية، وبطولات أفريقية آسيوية وقارية اخرى مهمة ، وإذا كان هناك من سيقول إن قطر تضخ أموالا في صناعة الإعلام فإن هناك دولا عربية أكثر ثراء من قطر، وتنفق في الإعلام أيضا لكنها لا تحقق التأثير المنشود ، المال وحده ليس كافيا لتحقيق النجاح، بل الأساس هو جدية المشروع، والخطاب الإعلامي الذي يخدم الجمهور، ويسعى لكشف الحقيقة، ولا يكون في خدمة السلطة، أي سلطة، والترويج والتسويق لسياساتها فقط علاوة على التخطيط الجيد، والإدارة الرشيدة وتوفر المقومات البشرية والفنية والمادية، قناتا "العربية" ، و"سكاي نيوز" مثلا أخفقتا في منافسة "الجزيرة"، وكانت هناك قنوات "أيه أر تي" الرياضية الرائدة في هذا المجال، ثم ظهرت قناة رياضية واحدة تابعة للجزيرة، لكنها عملت بدأب حتى تميزت ونجحت وتوسعت ولم تجد "إيه أر تي" في النهاية من طريق إلا بيع نفسها للجزيرة الرياضية. في يوم ما كان التلفزيون المصري رائدا حيث لم تكن هناك تلفزيونات بالمنطقة، ولما تأسست تلفزيونات عربية ، وظهر الإعلام الخاص و "إم بي سي" نموذجه الأول الذي قدم شاشة جديدة جذابة شكلا ومضمونا فإن مكانة ماسبيرو بدأت تتراجع، وهو ظل محلك سر، ولم يطور نفسه، ولم يعتمد المنافسة، بل ظل يعمل بمنطق شركات القطاع العام التي تمولها الدولة ويحصل العاملون فيها على الرواتب والعلاوات والحوافز والأرباح السنوية بغض النظر عن تحقيق أرباح أم لا، وهو ما أفشل القطاع العام كتجربة في مصر، وليس كفكرة ونظرية اقتصادية. ويوما ما كنت أشاهد كل مباريات المونديال في تلفزيون بلدي، وكذلك كل فعاليات الدورات الأولمبية قبل ظهور "إيه أر تي"، و"الجزيرة الرياضية"، وكان تلفزيوننا رائدا فعلا، لكنه لم يخطط للمستقبل، وظن ألا أحد سينازعه فيما يتميز به، لكن العرب يتطورون، ولا ينتظرون الإذن من أحد، وبالتالي يكون طبيعيا ظهور شبكتي الجزيرة الإخبارية والرياضية، وكل واحدة تفوقت وسيطرت في مجالها ، ووصل الأمر بتلفزيون مصر أن يبث مباراة لمنتخب مصر مع غانا خارج القانون الذي ينظم البث، ولذلك عاقب الاتحاد الدولي لكرة القدم القاهرة بغرامة مالية كبيرة. كان ممكنا لمصر أن تؤسسن قناة إخبارية ناجحة، وليس بمستوى النيل للأخبار، لتكون نواة لشبكة إخبارية شرق أوسطية وعالمية، وهي لديها العنصر البشري والفني الماهر، لكنه الجمود ، وكان يمكن أن تؤسس شبكة رياضية انطلاقا من قناة النيل الرياضية، لكنه الجمود أيضا الذي يجعل هذا التلفزيون خارج المنافسة حتى في مصر، ويجعل قنوات خاصة لا يزيد عمر بعضها على عامين فقط تتفوق عليه في نسب المشاهدة والإعلانات. لا تلوموا من ينشطون ويعملون وينفقون لصنع إعلام ناجح مؤثر، وصنع تاريخ وسمعة واسم كبير لبلدانهم، لكن لوموا أنفسكم لأنكم لم تحافظون على ريادتكم. التاريخ وحده لا يكفي لصنع حاضر ومستقبل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.