قال عضو بارز في "المجلس الوطني الانتقالي" الليبي ل swissinfo.ch "إن الاعترافات الدولية بالمجلس، ستتوالى في الأيام المقبلة، سواء من الدول الأوروبية أو الإفريقية"، بعدما دشّنت السنغال هذا المسار بإعلانها سحب الاعتراف بحكومة القذافي واعترافها بحكومة الثوار. وأوضح العضو، الذي فضَّل عدم الكشف عن هويته، أن آلية نقل السلطة في طرابلس بعد تنحي القذافي، هروبا أم قتلا أم اعتقالا، تمّت مناقشتها خلال اجتماع للمجلس بكامل أعضائه في بنغازي الأسبوع الماضي، وهي تتوزّع على ثلاث مراحل رئيسية. أولاها، تشكيل "مجلس وطني" بالتوافق سيضع دستورا جديدا لليبيا. والثانية، إجراء استفتاء على الدستور بإشراف الأممالمتحدة، والأرجح أنه سيكرّس اختيار نظام جمهوري برلماني، على رغم أن "الإتحاد الدستوري" الذي يقوده من لندن الشيخ محمد بن غلبون ما زال ينادي بإعادة الملكية. أما الثالثة، فهي تشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من تكنوقراط وبعض الموظفين السامين في النظام السابق الذين لم ينتموا إلى "اللِّجان الثورية" ولم يكونوا ضالعين في أعمال القمع. ورجّح مراقبون أن يُعهد برئاسة هذه الحكومة إلى الدبلوماسي المخضرم محمود جبريل. يبقى سؤال جوهري يتعلّق بمستقبل التعايُش بين التيارات والتنظيمات السياسية المختلفة، التي عارضت القذافي، لكنها لم تتحمّل بعضها البعض، فمزّقتها الصراعات والتناحرات، ما ألقى بظلاله على أداء المجلس الوطني الإنتقالي وقواته المسلحة، وإن كان الجميع متفقا حاليا على أن الأولوية هي للتخلّص من القذافي وأسرته. وليس سرا أن العميد خليفة حفتر، القائد العسكري ل "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" الذي يقود ميدانيا المعارك ضد كتائب القذافي، يتنازع على قيادة الثوار مع وزير الداخلية السابق للقذافي العميد عبد الفتاح يونس. واعتبر حفتر، الذي كان عقيدا شارك في الحرب التي خاضها الجيش النظامي الليبي في تشاد في ثمانينات القرن الماضي قبل أن ينشق على النظام، أن يونس كان متورِّطا إلى وقت قريب في أعمال قمع، شملت عناصر من "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" بأمر من القذافي. تياران رئيسيان ويمكن القول أن القوى الفاعلة في الثورة الليبية حاليا، تتوزَّع على تياريْن رئيسييْن، يتمثل أولهما بالجماعات الإسلامية، والثاني بالمجموعات والشخصيات الليبرالية، التي يُطلَق عليها اختصارا اسم "التيار الوطني" والتي يتشكل من بعضها أعضاء "المجلس الإنتقالي" الثلاثة عشر، ولا يوجد بين هؤلاء أي شخصية إسلامية منتظمة في حزب. فرئيس المجلس مصطفى عبد الجليل رجل محافظ، لكنه كان وزيرا للعدل إلى وقت قريب ولم يُعرف عنه أي انتماء حزبي. ويشير الناشط محمد نصر المبروك إلى أن البطش الذي كان يُسلطه القذافي على المعارضين لنظامه في الداخل، لم يسمح ببروز أي تيار سياسي على السطح، عدا التيار الإسلامي، بحُكم طبيعة المجتمع الليبي المتديِّن. وأفاد المبروك في تصريحات ل swissinfo.ch أن "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" على سبيل المثال، اكتسبت حضورا قويا في ثمانينات القرن الماضي، غير أنها تلقّت ضربة قاصمة بعد فشل العملية النوعية التي خططت لتنفيذها في باب العزيزية في أواسط الثمانينات واعتقال قياداتها وكوادرها. واعتبر أنها أصبحت اليوم رمزا، بعدما انقسمت إلى عدّة مجموعات ومسميات. وأكد أنها تحاول لملمة صفوفها والبحث عن موقع في أعقاب اندلاع الثورة على القذافي، وخاصة في "المجلس الوطني الانتقالي". ويقود الجبهة الدكتور محمد إبراهيم صهد، المقيم في دبي، ونائبه الدكتور محمد علي عبد الله، ولها حضور إعلامي من خلال المشاركة في الفضائيات أساسا. أما التيار الثاني في الجبهة، فيقوده مفتاح الطيار وهو يسعى أيضا إلى إيجاد موطِئ قدم للعب دور في المرحلة المقبلة. وكانت "الجبهة" التي أسسها محمد المقريف، السفير السابق في الهند قبل أن ينشق عن القذافي، أول من فتح معسكرات لتدريب المعارضين للنظام في كل من المغرب والسودان. وخططت عناصر من الجبهة للسيطرة على باب العزيزية واغتيال رموز النظام وفي مقدمتهم القذافي، إلا أن الأجهزة الأمنية تفطّنت لها ورصدت تحركاتها في تونس ثم ألقت عليهم القبض في الخامس من مايو 1984 في عمارة تقع في الظهرة في ضواحي طرابلس. وأفاد ناشط سُجِن أربعة أعوام في هذه القضية لمجرّد ورود اسمه بين قائمة العناصر التي كان مُزمعا الاتصال بها، أن قائد العملية الحاج أحمد حواس قُتل في معركة مع القوات الليبية على الحدود المشتركة مع تونس وعُثر في حقيبته على قائمة سمحت باعتقال أفراد المجموعة داخل ليبيا والتنكيل بهم. وأضاف العنصر، الذي فضل بقاء اسمه طي الكتمان، والذي تعرّف على الحاج حواس أثناء دراستهما في الولاياتالمتحدة، أن الإعتقالات كانت بالآلاف وأن شبابا شُنقوا في طرابلس وبنغازي ومدن أخرى في المدن الرياضية، ليكونوا عِبرة لغيرهم، ومن ضمنهم الصادق الشويهدي في بنغازي والمهدي إلياس في درنة، فيما أودع أكثر من ألف عنصر السجن ليقضوا فيه بين أربع سنوات وثمانية عشر عاما، وخرج كثير منهم في الأكفان. وأكد المصدر أن تلك العملية أثرت سلبا في "جبهة الإنقاذ"، فانشق عنها عشرات إلى أن أصبحت قيادة بلا قواعد تقريبا. التيارات الإسلامية وفي المقابل، تشكل التيارات الإسلامية امتدادا للجماعة الإسلامية التي تأسست في بريطانيا في مطلع ثمانينات القرن الماضي. وكان سليمان عبد القادر، المراقب العام للإخوان المسلمين (في ليبيا لا تُستخدم عبارة المرشد العام المُعتمدة في مصر)، مقيما في سويسرا ويقود تنظيما منتشرا في أوروبا قبل إعلان تأييده للمجلس الوطني الانتقالي في أعقاب اندلاع الثورة. وللجماعة موقع إلكتروني هو "المنارة" ونشرة "ليبيا اليوم" الإلكترونية أيضا، وهي تدعم منظمات حقوقية، منها جمعية "التضامن" ومنظمة "الرقيب لحقوق الإنسان"، التي يديرها شارف الغرياني من ألمانيا، بالإضافة إلى كيانات سياسية وحقوقية سعت لإقامتها عناصر ابتعدت عن الإخوان المسلمين في كل من باريس وبون ولندن، لكن معظمها اندثر. ووصل عدد هذه الكيانات في الثمانينات إلى أكثر من 15 تنظيما، بحسب كتاب وضعه الدكتور عمر الفضلي المقيم في أمريكا. ولم تشارك الحركة الإخوانية الليبية في "المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية"، الذي عُقد في لندن عام 2005، ويُقال أن ذلك الموقف كان مبنِيا على الحرص على عدم نسْف جسور الحوار التي بدأت الحركة تمدّها نحو الحكم من خلال سيف الإسلام معمر القذافي. على العكس من ذلك، يُمكن اعتبار مسار "الجماعة الإسلامية الليبية" المعروفة ب "المقاتلة"، مختلفا، إذ كانت ذات توجّه جهادي وارتبطت في البداية بتنظيم "القاعدة" وكان معظم عناصرها يعمل في الداخل، وخاضت مواجهات عسكرية مع نظام القذافي، انتهت بانتصار قواته وإنهاء التمرّد المسلح. وأطلق سيف الإسلام حوارات مع عناصرها في السجون طيلة السنوات الأخيرة، أسفرت عن اعتمادها مراجعات نبذت العُنف، ما سهّل إطلاق مئات منها من السجون في العام الماضي. وإلى جانب الإخوان المسلمين والجماعة الليبية المقاتلة، ظهر "التجمع الإسلامي" الذي كان يقوده من جنيف عبد الوهاب الهلالي والذي كان يتّخذ موقعا وسطيا بين الإخوان و"المقاتلة". غير أن المصادر التي تحدّثت إلى swissinfo.ch أكّدت على "محدودية التجاوب مع المنحى الجهادي في ظل بيئة ليبية معروفة باعتدالها"، مُشدّدة على أن العمود الفقري للتيار الإسلامي، مقتنع منذ فترة بعيدة بضرورة تغليب الصراع السياسي على العنف والعمل على إرساء دولة مدنية في ليبيا بعد رحيل القذافي وأبنائه عن الحكم. واستدل الناشط السياسي فرج العشّة في تصريح خاص ل swissinfo.ch على رسوخ ذلك الخيار المدني بخارطة الطريق، التي انتهت إليها المعارضة الليبية في مؤتمر 2005 والتي وضعت ملامح دولة ديمقراطية تُقام على أساس تنحي القذافي عن الحكم أو تنحيته بقوة شعبية. أما محمد نصر المبروك، فسُئل عما إذا كان التيار الإسلامي مؤهّلا للتعايش مع التيارات الأخرى في دولة الغد، فأكّد وجود نفَس انفتاحي جعل هذا التيار يتوسّع اليوم إلى عناصر جديدة مختلفة في تكوينها عن الكوادر السابقة، وهي لم تعش احتقان الصراعات الماضية وتجاذباتها الحزبية، ما يُؤهِّلها ربما للعمل مع أطياف المعارضة الحالية المختلفة على بناء مؤسسات ليبيا الجديدة. مخاوف غربية على العكس من ذلك، لا ترى العواصمالغربية المهتمّة بالشأن الليبي، الأمور بهذه الطريقة، وهي لا تخفي خِشيتها من سيطرة التيارات الإسلامية المتشدِّدة على المجتمع الليبي غدا، وهو ما حدا بعدد من كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين إلى زيارة بنغازي والحديث مع العناصر الفاعلة على الأرض، لبناء رؤية عمَّن يقود الصراع ضد القذافي. وعكست مراكز دراسات غربية هذه الهواجس، إذ، تصدّرت ليبيا وأوضاعها الملتهبة، اهتمامات عدد من مراكز الفِكر والأبحاث الأمريكية. وتناول مؤخّرا "مركز الدراسات الأمريكية والعربية - المرصد الفكري"، تحليل الأوضاع في ليبيا والخيارات المتاحة للدول الغربية. وفي نفس السياق، أعرب معهد كارنيغي عن قلقه من أن سقوط القذافي قد يقود إلى انهيار الدولة بالكامل، وخلّص في دراسته إلى القول "في بلدان شبيهة بليبيا أو اليمن، حيث المؤسسات الحاكمة المسيطرة يعتريها ضعف الأداء وغيابها أحيانا، فهي تبسط سيطرتها على البلاد، وفق قاعدة متشعِّبة من العلاقات الشخصية، في حين أن حظوظ النمط الديمقراطي في الحكم، تبدو بعيدة المنال". وحذّر من أن استمرارية المعارك هناك، قد تفضي إلى تغيير مفاجئ للنظام الحاكم بالكامل وانهيار الدولة، بسبب غياب بديل مستقِل عن مؤسسات النظام يعمل على الانتقال من السيطرة إلى الديمقراطية، لافتا إلى أن البديل المرجّح سيكون خليطا من هيئات متشظية، كالتي آلت إليها الأوضاع في الصومال لعقديْن من الزمن. وخلص "مركز الدراسات الأمريكية والعربية – المرصد الفكري البحثي"، إلى أنه لا يمكن الجزْم بما سيحدث في مرحلة ما بعد القذافي، إذ أن القيود القبلية المكبَّلة لا زالت تلعب دورا هاما في ليبيا، بينما تقدم الدولة المركزية نزرا قليلا من الخدمات للسكان خارج المدن الرئيسية، وعليه، يضطر جزء كبير منهم للإعتماد على ولاءاته القبلية لتلقي الخدمات الاجتماعية، بحسب تحليل المركز. وفي هذه الحال، حين يعتمد المواطن على ثِقل قبيلته لتوفير الحماية والخدمات، بدلا من الدولة المركزية، فإن الأمر لا يبعث على الإرتياح من جانب القوى المناهضة الراغبة في تشكيل حكومة مركزية قوية. ورأى التقرير أنه، في عصر ما بعد القذافي، قد تُسهم الخلافات القبلية في تأجيج الحرب الأهلية وسعي كل فريق حينئذ للحصول على نصيب الأسد، إلا أن السياسيين الليبيين اعتبروا هذه التحاليل مُبالَغا فيها، وتعهّدوا بالعمل على أن تتم العملية الإنتقالية بكامل السلاسة وبعيدا عن أي تصدّع في الجبهة التي صارعت القذافي وأركان حُكمه من أجل إقامة جمهورية ديمقراطية. وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن معظم القوى المُنضَوية حاليا تحت لِواء المجلس الوطني الإنتقالي، لا ترغب في العودة إلى نظام الحُكم الملكي، وهذه نقطة اتفاق في شأن شكل الدولة المقبلة. المصدر: سويس انفو