قبل إلغاء الرق كان بعض الناس يباعون ويشترَون كما تباع السلع وتشترى، وكان أولئك العبيد المباعون المشترَون لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا لأنهم ملك لأسيادهم ، فإذا أمروهم بأي أمر ائتمروا، وإن نهوهم عن أي شيء انتهوا، لا يقدرون على قول: لا ، ولا يجرؤون على مناقشة أسيادهم في أي قضية كانت ، بل ينفذون فحسب. ثم ما يكسبونه من مال إن اكتسبوا هو ملك لأسيادهم لا لهم. تلك الأوضاع أوجبت للعبيد أن يكونوا ضعيفي الشخصية بل معدومي الشخصية، فالواحد منهم لا يقرر شيئا من أم رأسه بل من رأس سيده ، وهو إن أراد تحقيق مطلوب أو انجاز مهم لا بد له من أخذ الإذن من سيده؛ لذا ضعفت إرادتهم أو ماتت ، ، فكان من صفاتهم القعود عن الفضائل ، ومكارم الأخلاق، ومعالي الأمور. وصار – أيضا- من عادة كثير من العبيد أنهم لا يعبأون بالاتصال بالدنايا من كذب وسرقة ونفاق وتملق للأسياد إلى غير ذلك من الأخلاق الرذيلة. من هنا كانت العرب تمدح الرجل بأنه حر، وتذمه، إن ذمته، بأنه عبد ، حتى وإن لم يك كذلك في واقع الأمر. وإلى الآن نرى هذه التسمية ؛ فلا زلنا نَصِفُ الأبطال ومقاومي الاستبداد والظلم بالأحرار، ونذم من يضيعون أوطانهم ويتنازلون عن حقوقهم ونصفهم بالعبيد. لقد انتهى الرق ولم تنته أخلاق العبيد من الأرض ، فلا تزال ترى أناسا دأبهم التملق والنفاق واتخاذ رؤساءهم أو أي أحد ينتفعون منه بوجه من وجوه النفع – أسيادا لهم يأتمرون بأمرهم ويصدرون عن رغباتهم، ويتمسحون بأذيالهم . لا تزال ترى الواحد منهم يتزلف إلى من فوقه- وما من أحد إلا وفوقه أحد- بالنفاق وقول الباطل وكتمان الحق. أضر وجود لأخلاق العبيد هو وجودها بين العاملين في دنيا الثقافة والإعلام؛ فإن من يحمل منهم أخلاق العبيد يكون ضرره بليغا، وأثره شنيعا، وخطره على أمته جسيما. إن أولئك العبيد المعاصرين هم أعظم شر وأنكى بلاء على الشعوب؛ يزيفون الوعي، ويقولون الزور، ويزينون الباطل، ويمجدون الظالم، ويحقرون الشريف، ويتهمون الأبرياء ، ويدافعون عن الخونة، ويعينون على الإثم ، ويصدون عن الفضيلة . مَن مهد للطغاة والمستبدين والديكتاتورين إلا أولئك العبيد الذين يلعقون أحذيتهم مقابل جنيهات يرمونها لهم فيصورنهم على أنهم رموز العدالة في العالم ، وأنهم نماذج الوطنية التي ينبغي أن تُحتذى . هل نسيتم ماذا فعل العبيد مع النظام المصري السابق الفاسد المتوحش؛ حيث كان الديكتاتور يبطش بالمعارضين وتفتك بهم أجهزته الأمنية التي تحولت إلى أجهزة قمع ورعب لعموم الناس ، ثم تنطلق وسائل الأعلام مقروءة ومسموعة ومرئية تمجد ديمقراطية الديكتاتور وتتغنى بعدالته. أمَا كان بعض العبيد يؤلفون الأشعار والأغاني الطوال في تمجيد الديكتاتور وحكمه ؟ أمَا كان بعضهم يسود صفحات الجرائد بصفة شبه يومية عن عظمة النظام ومنجزاته في كل شبر من أرض مصر- بزعمهم- في الوقت الذي يقتل الناس بعضهم بعضا في طوابير الخبز أو اسطوانات الغاز، وقد عضهم الفقر، وطحنتهم البطالة، ، ومزق أجسادهم الطعام المسرطن؟! أمَا كان العبيد – بإشارة واحدة من أسيادهم يهجمون على كل المغضوب عليهم من قِبل النظام فيصورنهم على أنهم خونة مجرمون متآمرون ؟! أمَا نسوا هموم المواطن وباعوا مصالح الوطن مرات ومرات من أجل الاحتفاظ بكراسيهم ومناصبهم ؟! إن العبيد لم يرحلوا مع رحيل أسيادهم ، ولم يدخلوا معهم السجن ، بل هم طلقاء أحرار يعيثون في فضاء الإعلام فسادا ، بحثوا وبسرعة عن أسياد جدد يعملون لحسابهم ، فسيدهم الحقيقي هو درهم يملأ جيوبهم ولقمة تنفخ أجوافهم وشهوة تشبع نهمهم. يدبج أحدهم المقال أو يكتب التحقيق أو يُجري الدراسة أو يعقد المؤتمر أو يقدم البرنامج أو يُخرج الفيلم أو يؤلفه أو يمثله ،فيكذب في أول عمله أو في آخره أو من أوله إلى آخره، فيقلب الحقيقة ؛ ليظهر الجاني مجنيا عليه، والمتآمر الخائن وطنيا مخلصا، والأمين المخلص عميلا متطرفا. يعيبون الناس بما فيهم هم من أدواء وأمراض؛ فيتعامل أحدهم مع مخابرات الدول الأجنبية، ويأخذ عمولته على نشر أيدلوجيتها وأفكارها جوائز وأوسمةً وحضور مؤتمرات ، ثم يرمي الوطنيين الأحرار بأنهم عملاء وأصحاب أجندات!! لا تطمئن أن تنقل عن أحدهم معلومة ؛ لأن الكذب الانتفاعي جار في عروقهم كما تجري الأمانة في عروق الأحرار . ابحث عن المصلحة والمنفعة تعرف مكان الواحد منهم بيسر وسهولة ، وتعرف أنه سيكتم الخبر الفلاني ، وسينشر الخبر العلاني ، وسيزيد كلمة هنا وسينقص كلمة هناك، وسيجعل جملة ما " مانشتا" في صدر الصفحة الأولى، وسيجعل نظيرتها منزوية متوارية في بطن الجريدة، وسيقطع الخط في وجه هذا المتصل ، وسيفسح المجال أمام المتصل الآخر. عبدٌ عند سيده أو أسياده ، يحدد له أو يحددون له ما يكتب وما ينشر وما يناقش وما يذيع وما يكتم ، ومَن يحب ، ومَن يكره ، ومَن بعادي ، ومن يؤازر ، ومَن ينتقص ، ومن يُمجّد، ومن يفيض في الثناء عليهم ، ومن يكيل لهم الشتائم. المشكلة أن أكثر وسائل الإعلام يتسيّدها أولئك العبيد ، وهم لا يرقبون في رجل حر ولا فئة حرة ولا فكرة حرة إلاًّ ولا ذمة، بل يجبلون على ذلك كله بخيلهم ورجلهم ، ويصبون عليهم جام غضبهم، ويقودون ضدهم الحملات الشعواء بفُجر اللئام ودناءة العبيد. فمتى متى نستريح من العبيد؟؟ [email protected]