فى ثمانينيات القرن الماضى راود الأمل قلوب المصريين أنهم بصدد التأسيس لشرعيه حكم جديده تنهى مرحله(الثوره52-82) بما لها وماعليها وتمهد لمرحله(الدوله الناهضه)..ورفع شعار (الصحوه الكبرى) كشعار يرمز الى فلسفه الحكم فى رؤيه المستقبل خلال هذه المرحله الجديده ..وبدا للقائمين على الأمور أن(القاطرة القادرة)على التقدم بالبلاد وتحقيق تلك الصحوه الكبرى هو(الاصلاح الاقتصادى) .. كان هذا من ما يقرب من ربع قرن... مرت فيها اقدام السنين على اعناق الناس بقسوة وشدة ..رغم ان الوقت كان اقل جموحا من الأن. وبغض النظرعن مدى صدقيه الشعاروجديته سواء فى الحديث عنه او فى إنزاله على الواقع ..فقد أثبت التاريخ قبل ذلك وأثبت واقع الحال بعد ذلك أن الإصلاح الاقتصادى ليس هوالقاطرة القادرة على التقدم ..وأن الاصلاح الاجتماعى بشقيه الدينى والسياسى هو هذه القاطره القادرة . رأينا ذلك فى بدايات عصر النهوض والانوار فى اوروبا بتحرك مارتن لوثر..وقرأنا عن ذلك فى تجربة جمال الدين الافغانى فى الشرق الذى يقول عنه سعد زغلول أن(للسيد جمال الدين واتباعه وتلاميذه اكبرالأثر فى نهضه الشرق وهذا حق يجب ألانكتمه لأنه لا يكتم الحق إلا الضعيف)..وتشير كثيرمن الدراسات الى ان الافغانى كان متأثرا بدرجه كبيره بحركه مارتن لوثر وكلفن فى اوروربا و كان يعتبر انها هى التى مهدت للنهضه الاوروبية الحديثة. وأتصورالأن اننا امام حقيقة يقينية . يتحدد بها اين المرض؟ ومن اين يبدأ العلاج ؟... ورغم أن الإصلاح السياسى تناولته افكار واقلام كثيرة خلال الفترة الماضية فيما عرف بالحراك السياسى والذى صاحبه زخم هائل على مستويات كثيرة .. ورغم أن حلم(ديمقراطية المواطنة)ينام ويصحو عليه الجميع.. إسلاميين وليبراليين وقوميين الا انهم _ فيما رأينا _ لم يتوقفوا كثيرا امام حقائق التاريخ ..والتى تشير بوضوح الى ان ديمقراطية المواطنة ما هى الا الثمرة الطبيعية لشجرة كبيرة اسمها (الاصلاح الاجتماعى بشقيه الدينى والسياسى) ولن تثمرهذه الشجرة ثمرتها المأمولة إلا برعايتها وصونها على التمام والكمال...ومن المهم بداية الاشارة الى ان الاصلاح الدينى والسياسى الذى تم فى اوروبا والذى بدأ بإخراج الكنيسة من الدولة ونقد النصوص المقدسة إلى حد الكفر بها أحيانا هو تجربة أوروبية خالصة ليس لها اى مشابهة عندنا فيما يخص علاقة الدين بالحياة ..وانا ادعوا اخوانناالليبراليين الى قراءة المجلد الثانى عشر من (قصه الحضارة) لديورانت .. ويروا كيف دفع الناس دفعا الى هذا التعامل مع الكنيسة والنصوص المقدسة .الأمرالذى تعاد مراجعته الأن وهوما يسعد كل المؤمنين(وإلهنا وإلهكم إله واحد )على أن يخلوا هذا الايمان من التعصب والعنصرية والمركزية التى يتعامل بها الغرب مع بقية العالم من حوله. وليسمح لى غلاة الليبرالين العرب الذين يدعون الى استنساخ تجربة النهضة الغربية الى مشاغبتهم قليلا بهذه القصة:(يحكى ان بلدا انتصرت على بلد وكان المنتصرون من ذوىالأنف الكبيرالطويل ..فربط المنهزمون بين حجم الأنف والنصرفى الحرب وراحوا يحاولوا المستحيل لتكبيرأنوفهم بالشد والجذب وتركيب أنف صناعى كبير ..ولم تكن هناك حقيقة أى علاقة موضوعية بين حجم الأنف والنصرأوالهزيمة). والمعروف ان فكرة الاصلاح الدينى التى نتحدث عنها الأن لا تتحرك فى فراغ.. فتجربة جمال الدين وتلاميذه النجباء محمد عبده وابراهيم اللقانى وأديب اسحق لا زالت حيه بيننا فكرا وحركة فى تجربة الاخوان المسلمين فى مصر والعالم العربى بكل ما لها وما عليها فما هى إلا إمتداد لهذه التجربة.. ونحن محظوظين فى حقيقة الامر لأن السياق التاريخى الحالى افضل كثيرا من البدايات الاولى التى بدأت فيها حركه الاصلاح.. ولنا ان نتخيل الظرف التاريخى الذى قام فيه جمال الدين حين نعلم ان الاسطول العثمانى كان يرصد له مبلغا كبيرا فى الميزانيه لقراءة صحيح البخارى فى سفن الاسطول للتبرك به وحينما نبههم الشاعرالعراقى جميل الزهاوى الى ان السفن تسير بالبخار لابالبخارى تعرض لهجوم شديد وكاد يقدم للمحاكمه ظنا منهم انه يسخر من صحيح البخارى.. كانت هذه هى الخلفية التى تحركت فيها الخطوات الاولى للاصلاح الامر الان مختلف تماما ..وادبيات الاصلاح الدينى بها ثروة هائلة من الافكار والاجتهادات والخبرات التى لا ينقصها إلا أن نعيد قراءتها بعين العصرالذى نعيشه بما فيه من متغيرات ومؤثرات . نحن ان امام (واجب تاريخى) يدعونا الى أن نلتقى ونجتمع بكل قوة واحترام حول ما يعرف بمفهوم(الكتلة التاريخية) التى تعبرعن كل القوى الاجتماعيه صاحبة المصلحه الأولى والأخيرة فى التغيير الإجتماعى..إذ لابد للخبزمن فرن إذا ما أختمر كما يقولون ..هذا المفهوم الذى كان قد اطلقه (انطونيو جرامشى) فى النصف الاول من القرن التاسع عشروهو يصف تعقيدات الوضع الايطالى ..الأمرعندنا لا يتطابق تماما مع كان عليه الوضع فى ايطاليا وقتها إلا أن المقارنة مقبولة .. الاسلاميون انتهوا تماما الى أن(دولة ديمقراطية المواطنة) التى تتداول فيها السلطة وفق دستورالتوافق والاجماع ..هى الهدف النهائى لأى اصلاح سياسى.. ولم نعد نسمع الأن افكارا على شاكلة ان العالم فراغ جئنا لملئه بل بات ما نسمعه ان العالم ملىء بتيارات محترمة جديرة بالفهم والاحترام .. وأحسب أن الحركة الاسلامية الأن مليئه برجال يعرفون كيف يزنون المصلحة وكيف يقرؤونها بعين الشرع الذى شرعه الله لمصالح العباد أكثرمن أى وقت مضى..وإنصاف المؤمنين يدعونا لأن نقرونشهد ان الإسلام فى طبيعته ليس دينا جامدا غيرقابل للتطابق مع الأمور بل هودعوة حية متواصلة مع الزمن .. الليبراليون انتهوا تماما فى أغلبهم إلى أن الدين مكون أساسى من مكونات البنية الصلبة للمجتمعات العربية وأن هوية أى مجتمع لابد أن تكون متسقة مع تاريخه وتراثه .. وأن الشأن فى الخبرة الاسلامية مختلف تماما عنه فى المجتمع الغربى وأن تلاعب رأس المال والاعلام بتطبيقات الليبرالية يجب ان تكون له ضوابطة . القوميون انتهوا الى انه لا عروبة بلا إسلام _دينا و ثقافة_وأن العدل الإجتماعى لن يتحقق إلا تحت مظلة الحرية والتعددية . ستتفق هذه(الكتلة التاريخية) على مفهوم الاصلاح الدينى فكرا ومؤسسات وهيئات..وينتظر من الاخوان المسلمين كهيئة اسلامية ان يكونوا أول من يفتح قلبه وعقله لمفهوم هذا الاصلاح .وما قلت إلا بالذى أعلم. ستتفق هذه(الكتلة التاريخية) على مفهوم الاصلاح السياسى دستورا وممارسة.. ستتفق هذه(الكتلة التاريخية) على أن الهدف النهائى من كل هذا هوتثبيت وتقنين مفهوم دولة(ديمقراطية المواطنة).. وقتها ستتشكل امامنا تلقائيا الصورة الكاملة الملامح لمشروع (الصحوة الكبرى _الذى تعثر فى التطبيق على مدارربع قرن من الزمان_ )فى اطار مفهوم التنمية الشاملة ..اقتصاد وتعليم وصحة و خدمات وتشغيل . وقتها لن يكون هناك فساد و لاتسلط ولا قهر..ولن تكون الدنيا ضيقة على الناس برحبها ..ولن تكون هناك حظوظ ظالمة بين رنين الفؤوس ولمعان الكؤوس ...وقتها سنكون بإزاء(إنسان) صلحت فيه معانى الإنسانية التى له _كما يقول بن خلدون _فلن يكون مذعورا ولا خائفا ولا مخادعا ولا كاذبا ولا كسولا..وسيكون هذا الانسان هو (عراب) هذه الصحوه الكبرى امام نفسه وامام باقى الناس من حوله. فهل نعثرعلى الحاضر ونحسب للغد حسابه؟؟ منتبهين الى ان الإحساس بالمستقبل هو احدى الصفات القليلة التى ينفرد بها (البشر)عن(الكائنات الغير بشرية). [email protected]