مصر في هذه اللحظة التاريخية أقوى من أي رئيس للجمهورية جديد ، هذا ما ينبغي أن يكون حاضرا في تقييمنا للمرحلة المقبلة ، ليس هذا من قبيل التأكيد على الثقة المطلوبة في النفس والثورة ، وهي ثقة ضرورية قطعا ، ولكن أيضا من باب رصد الواقع الفعلي وتوازناته ، لا يوجد أي رئيس للجمهورية الآن يستطيع أن يتآمر على الشعب أو أن يتجاهل إرادته أو يخوض ضد اختياراته ، فلا ينبغي أن يكون هناك مخاوف مبالغ فيها من شخص الرئيس المقبل أيا كان ، والمهم أن يأتي باختيار حر من الشعب في انتخابات شفافة ونزيهة . كذلك فإن الاتجاه الغالب الآن في هيكلة النظام السياسي المصري يتمثل في تقليص سلطات رئيس الجمهورية ، وتعزيز سلطات البرلمان ومن ثم الحكومة المنتخبة ، وبغض النظر عن حجم هذا التقليص ومداه ، إلا أنه بكل تأكيد سيلغي حقبة من "التأليه" لمنصب رئيس الجمهورية ، حيث كان يملك كل السلطات في الواقع وكل ما عداه من مؤسسات الدولة وهيئاتها مجرد ظل لا تملك أي سلطة مستقلة أو حقيقية ، وبالتالي لن يخلو منصب الرئيس المقبل من أن يكون منصبا شرفيا ، وبذلك يرفع الخلاف إلى حد كبير ، لأنه سيكون مسؤولا عن الجوانب البروتوكولية والتمثيل الاحتفالي للدولة ، كملكة انجلترا ، دون صلاحيات حكم حقيقية ، وإما أن يكون رئيسا بصلاحيات ، حتى لو انتهينا إلى نظام جمهوري من جديد ، لكنها ستكون صلاحيات محدودة ، ومحصورة ، ومحجمة بسلطات أخرى مقابلة ، تتوزع على البرلمان الخارج عن إرادته وإشارته ، وأيضا القضاء المستقل والذي ينبغي أن ننشغل كثيرا في هذه المرحلة بتعزيز أي خطة أو مشروع لتعزيز وتعميق استقلاليته ، لأنه أهم وأخطر من جميع السلطات الأخرى . أيضا نحن بحاجة إلى أن نستحضر دائما أننا نتكلم عن مرحلة انتقالية في حكم مصر ، والمراحل الانتقالية يكون الاحتياج فيها إلى معايير وضوابط وربما أشخاص ، يختلفون عما نحتاجه في مراحل الثبات ، كذلك فإن المرحلة الانتقالية الهم الأكبر فيها ليس في البحث عن أشخاص وإنما في بناء مؤسسات وقواعد وترسيخ ضمانات وحقوق وقوانين وهياكل دولة عصرية ديمقراطية ، ثم تأتي بعد ذلك في مراحل أخرى قيمة الأشخاص التي تشغل هذه البنى وتقود تلك المؤسسات، والذين يقارنون مصر بتركيا ، ويتحدثون عن تشبيه بعض أشخاصها برجب طيب أردوغان ، عليهم أن يتذكروا أن أردوغان لم يجلس في هذا المنصب إلا بعد مرحلة مران طويلة ، وأذكر أني قابلته في مكتبه باسطنبول قبل حوالي خمسة عشر عاما أو أكثر وكان رئيسا لبلدية المدينة التاريخية الضخمة ، لم يتعجلوا أمرهم وعملوا بثبات ، ومارسوا تجربتهم في مساحات محدودة من المسؤولية في المجالس البلدية "الخطيرة" في تماسها مع المجتمع والناس ، وبعد أن برهنوا على النجاح وتحمل المسؤولية نجحوا باقتدار في قيادة الدولة ، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة . وأنا لا أقصد أن الإسلاميين أو غيرهم في مصر يحتاجون إلى كل هذه الفترة الانتقالية الطويلة ، كما حدث في تركيا ، التي كانت تعاني من جيش تقوم عقيدته على الصدام الصريح والعلني مع الإسلام والهوية الإسلامية بكل ملامحها ، ولكني أقصد أن كل القوى الوطنية المصرية وفي المقدمة منها التيار الإسلامي ، تحتاج إلى احترام فترة التحول ومقتضياتها وحساسياتها وحساباتها وخطورتها ، لأن "استعجال الأمور" قبل أوانها ، يمكن أن يفضي إلى خسارة كل شيء ، وعليهم أن يتذكروا أثناء حكم المخلوع مبارك ما هو سقف أمنياتهم وطموحاتهم ويقارنوا ، كما أن الإسلاميين بشكل خاص يتحملون مسؤولية مضاعفة بطمأنة بقية القوى الوطنية أنهم لا يهدفون إلى "التكويش" على السلطة وأنهم شركاء وليسوا إقصائيين للآخرين ، وأن مصر تسع الجميع ، وأي رسالة خطأ في تلك اللحظة الفارقة يمكن أن تكون عواقبها وخيمة . ثورة مصر بخير ، وشعب مصر بخير ، وقواتنا المسلحة وحكمتها بخير ، والمستقبل رغم كل التحريض والتآمر مترع بالخير والبشر لمصر وشعبها وشعوب المنطقة كلها ، ولكننا بحاجة ماسة إلى أن نمارس قدرة أكبر على إدارة الحوار والخلاف في جو بعيد عن التشنج والعصبية والنزق واستسهال الاتهامات وإغلاق العقول على رؤى سابقة التجهيز والتعليب ، فما تراه خطأ الآن ، قد تراه عين الصواب غدا أو بعد غد ، والعكس صحيح أيضا ، ولا أتمنى أبدا أن أكون كما قال العربي الحكيم الحزين قديما : "أمرتهم أمري بمنعرج اللوى .. فما استبانوا الرشد إلا ضحى الغد". [email protected]