إن الأمة الآن في أمس الحاجة لدراسة فكر المرحوم محمد رشيد رضا السياسي ، وخاصة بعد الانتكاسة التي أصيبت بها ثورات الربيع العربي والضربات التي وجهت للتيارات الإسلامية المسماة ب " الإسلام السياسي " نتيجة وقوعها في بعض الأخطاء على غير قصد من قادتها ، وذلك بعد الانحراف عن منهجه الذي حدده للمصلحين من بعده ، واقتدى به زعماء الحركات الإصلاحية المعاصرة الذين تتلمذ أكثرهم على يديه سواء بالالتقاء المباشر أو من خلال أفكاره التي كان يدونها في كتاباته ، حتى قال محمد الغزالي رحمه الله : "الصحوة الحاضرة بأكملها امتداد وثمرة من ثمار مدرسة المنار ( التي أشرف عليها ) وقد تفرعت هاته المدرسة وتشعبت وصار لها رجالها الأفذاذ المتقنون المتفننون في سبل النهضة وطرائق التقدم." وقد اتصل في بداية حياته بجمال الدين الأفغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق السياسة، وبمحمد عبده الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق التربية والتعليم، وخرج بعد تعرفه على منهجي أستاذيه بمنهج خاص جعله يمزج بين المنهجين السابقين. وكان لاتصاله بجريدة العروة الوثقى التي أصدرها الشيخان ( الأفغاني ومحمد عبده ) أثر كبير في تكوين فكره السياسي والإصلاحي ، حيث وجهته للسعي في الإصلاح الإسلامي العام، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً للإصلاح بعد أن عرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، وفتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئا ، ودفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه كبار المصلحين وقادة التحرير. وقد بدأ بتشخيص داء الأمة فقال : " من المجمع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في حياتهم الاجتماعية ، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم ، إما في بسطة المال وسعة الرزق وخفض العيش فقط كاليهود ، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان وسطوة الملك أيضًا ". وأن من دواعي ذلك استهانتهم بأنفسهم واستهزائهم بمبادئ الأخذ بالأسباب ، فقال : أفليس من استهزائنا بالأسباب استهزاؤنا بالأفراد الذين يريدون إصلاحًا ؟ وهل الذين نهضوا بالأمم الأخرى إلا أفراد أمثالهم ؟ ومن ظن أن هنالك سببًا لخسراننا غير استهزائنا بالأسباب فليقل ، فأية سياسة لنا إذا كنا نستهزئ بالأسباب ؟ ثم شرع في وصف الدواء فقال : " ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها من تراث أسلافها ، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه ، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض وإصابة الغرض ، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها ، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه ، أما وجه اللزوم فظاهر ، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام شريعتها ، والصالح لا يختار إلا مثله . ويرى أن هذا لن يتأتى إلا بوجود من تستحضر فيهم همة الإصلاح فيقول : " يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم ؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد النظر ، وصحة الفكر ، وعلو الهمة ، وقوة العزيمة والإرادة ، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم وارتقوا بهم إلى المكانة العالية ، والمنزلة السامية ، ولا فصل في هذا بين الإصلاح الديني والعلمي ، والإصلاح المادي والسياسي . وصاحب الهمة هذا الذي يروم الإصلاح السياسي لابد له في رأيه أن يعلم أن السياسة علم أحوال الأمم ، علم أحوال الأمة الواحدة ، علم أحوال النفس .. وهذه ثلاث درجات لا يرسخ العالم في واحدة منها إلا أن يحيط نظره بالباقيتين ، ويصح أن يقف في واحدة منها إذا تمكن فيها قدمه ، ويكون معينًا لمن وقف في غيرها ، من هذه الدرجات الثلاث يكون رقي الأمم على أيدي علمائها إلى مناط السعادات. ويقول في موطن آخر : لمن السياسة اليوم ؟ السياسة لمن علت همتهم فجابوا من الأرض البحر والبر ، وعرفوا من الناس الفاجر والبر ، ومن الطبائع النفع والضر ، ... السياسة لمن نفذت عزيمتهم فرضخ لسلطانهم اليم ، واستكان لبعض تدبيرهم الجو ، وناجتهم الأرض دالة إياهم على غوامض أسرارها ، وخفايا كنوزها ، وخافتهم النفوس فسكنت لأحكامهم ، وترجتهم العقول فتعلقت بمعارفهم ، السياسة لمن يعرفون أسباب القوة ويعلمون التصرف بالضعيف ... والسياسة كسياج فيه أبواب : منها باب التربية والتعليم ، ومنها باب معرفة طبائع الأقاليم ، ومنها باب معرفة الزمان وأهله ، واختبار حلوه ومره ، وحزنه وسهله ، ومنها باب معرفة ما كان في غابر الأزمان ، ومنها باب تأليف القلوب وجمع القبائل والشعوب ، ومنها باب الحذر من الخصوم وقهرهم بالمدافعة أو بالهجوم ، ومنها باب المداراة والمداجاة ، ومنها باب التحرش والمفاجأة ، ومنها باب التفقه في الحكم وهو باب الأبواب ولب اللباب. وكان يرى أن إصلاح السياسة يحتاج لإصلاح الحاكم والرعية معا ، فيقول : إذا بَدأ ( أي الإصلاح ) في الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل ، وإذا بدأ في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل ،فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي الدعوة إحداهما أو كلتاهما . ويرى أيضا أن الإصلاح في جميع الأمم إنما جرى على أيدي الفقراء والمتوسطين ؛ بباعث معنوي ، ولم يوجد إصلاح في الأرض بدأ به الأغنياء. وردا على الجبرية الذين يرون أن التخلف والتقدم موروث في طبيعة الأمم لا دخل لهم فيه قال : " إن التقدم والتخلف ليست أقداراً ثابتة ولا أوصافاً موروثة لا سبيل إلى تجاوزها ، فالاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم واحدة ، وأن اختلاف الحالات لم يأت من اختلاف المدارك ، والتفاوت في الاستعداد .. وإنما جاء من أمور عارضة ، وظروف خارجية " . ولما كان الرجل يرسخ لفكر السياسة في الإسلام فقد اعتنى ببيان مفهوم السلطة السياسية في الإسلام وإزالة اللبس في فهم ماهيتها فقال : " إن السلطة السياسية في الإسلام هي سلطة مؤسسية وليست شخصيّة ، تتأسس على مبدأ سلطة الأمة في ظل الشريعة الإسلامية " وبالتالي فهي في نظره تستمد شرعيتها من الأمة ومن إرادتها ، وليست سلطة ثيوقراطية (دينية) كالتي سادت في أوروبا في القرون الوسطى. ويؤكد أن من أبرز خصائصها ( أي السلطة السياسية في الإسلام ) أنها وسطيّة تجمع بين مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وتوازن في ممارستها بين احتياجات الإنسان الروحية والمادية ، وأهم مؤسساتها في رأيه : مؤسستان رئيستان هما: أهل الحل والعقد ، والإمامة .. وهنا يبدو تأثره بالفكر السياسي الغربي الحديث ؛ حيث يعتبر أهل الحل والعقد بمثابة السلطة التشريعية والإمام بمثابة رئيس السلطة التنفيذية. ويتكلم عن مهام الحاكم في الإسلام ، وأن الدين لا يقوم إلا به فيقول :" لا تقوم مصلحة عامة إلا برياسة ، ولا تسير رياسة في منهاج الصواب ما لم تكن مقيدة بقانون عادل ، والدين مصلحة عامة ، ورئيسه في الإسلام بعد زمن النبوة الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين ، فهو المطالَب بحراسته الصورية والمعنوية ، المسئول بتعميم نشره في البرية " ومع ذلك يرى أن الخلافة ليست جبرا على الناس باسم الدين ، وإنما هي مدنية من حيث سيادة الشرع (القانون)، ليست ثيوقراطية - بالمعنى الكنسي- مؤسسية ، قائمة على الانتخاب والاختيار ، إنها شورية وليست استبدادية .. ويؤكد على هذه الفكرة بقوله : إنّ الشورى من أسس الحكم الإسلامي ومرتكزاته، وليست أمرا مندوبا ، بل هي واجبة على الأمة والحاكم في الممارسة السياسية الإسلاميّة . والاختيار أو الانتخاب في رأيه يخضع له الحاكم وأهل الحل العقد معا فيقول : فأهل الحل والعقد تختارهم الأمة ، وهم بدورهم يرشحون الحاكم الذي تقوم الأمة برفضه أو قبوله ، من خلال فكرة البيعة في النظام السياسي الإسلامي". وهو هنا لا يرى أي فرق بين الديمقراطية كنظام حكم وبين الشورى الإسلامية إلا في جزء واحد ، وهو أنهم في العمل الديمقراطي يقحمون الناس في كل شئون الحياة لأنه لا نص هنالك ولا مقدس ، لكن في الإسلام هناك نصوص قاطعة الثبوت والدلالة لا مجال للاجتهاد أو إبداء الرأي بالقبول والرفض فيها ، وهي –للعلم- قليلة جدا ، لأن معظم النصوص لا تخلو من الدلالة الظنية أو الثبوتية ، مما يفتح الآفاق أمام المجتهدين والمشرعين وأهل الحل والعقد ، ليقننوا منظومة الدولة علي غرار ما يصل إليه الحكم الحديث ، من آليات تحد من الظلم والاستبداد ، والانفراد بأخذ القرار . ثم أسهب في الحديث عن أهمية القوانين الإسلامية لصلاح الأمة فقال : " لا يمكن أن تنال الأمة حظها من السعادة المدنية إلا بخضوعها ظاهرًا وباطنًا للقوانين القضائية والمدنية التي تسير عليها حكامها ، ولا يمكن أن يخضع مسلم لقانون وضعه البشر إلا كرهًا وإجبارًا ، ومن يراعي منهم القانون ويخضع له في الظاهر كرهًا يعصيه في السر إذا أمن العقوبة ، كأن علم أنه لا يمكن إثبات عصيانه ومخالفته أو أنه يتسنى له إرضاء لحاكم بالشفاعة أو الرشوة " . ونبه على خطورة فصل الدين على الدولة الذي ينادي به من يسمون أنفسهم بالعلمانيين بقوله : أن المسلمين لا يعتقدون بحق ولا واجب إلا إذا كان مبينًا في شريعتهم ومأخوذًا من أصول دينهم ، فإذا فصل بين الدين والدولة كان جميع ما تكلفهم به الدولة من الحقوق والواجبات غير واجب الاتباع في اعتقادهم ، فإذا أخذوا به في العلانية لا يأخذون به في السر ، ولا يتم تهذيب الأمة ما لم يكن الوازع لها عن الشر والحامل لها على الخير ثابتًا في نفسها مقررًا في اعتقادها . ويؤكد على أن الإصلاح السياسي وعدم الاستبداد والرقي بالبلاد لا يكون في كل الأمم وليس الإسلامية فقط إلا بدافع الدين ، ويضرب لذلك مثلا باليابان ، فيقول :" أما الجابون ( اليابان ) فلم يكن السائق لهم إلى الإصلاح طلب الثروة ، ولم يكن تقدُّمهم ماديًّا بحتا لا شائبة فيه للدين ، بل كان السائق إليه هو صاحب السلطة الدينية المقدسة والسلطة المدنية القائمة على أساس الدين " وببداية الإصلاح في أوربا فيقول : " إن أول إمبراطور اشتغل بالإصلاح في أوربا وهو شارلمان كان مندفعا بدافع معنوي مشوب بالاعتقاد الديني ، ولولا الإصلاح الديني الذي قام به زعماء البروستنت لحبط عمله وكان هباءً منثورًا ". ثم تحدث عن مشكلة تقنين الشريعة الإسلامية وتحويلها لقوانين تناسب العصر وعاقبة التقصير في ذلك فقال : " وما اضطر الحكومة العثمانية والمصرية إلى العمل بالقوانين الأوروبية إلا عدم وجود كتب شرعية إسلامية تنطبق على حالة العصر ، وعجز الحكام عن أخذ ذلك من الشريعة لجهلهم بها وغفلة العلماء عن حالة العصر وما تقتضيه ، والتقيد بمذهب واحد " . وقدم تصوره لفكرة الجامعة الإسلامية التي كانت تشغل الناس في عصره فقال : "ينبغي للمسلمين في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران ، ويفجر فيها ينابيع الثروة ، هذا ما يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها ، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان ، وأما الحكومات الإسلامية ، وفي مقدمتها الدولة العلية ، فيجب عليها أن تساعد رعاياها على هذه الأعمال ، وتسهل لهم سبلها ، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات الداخلية ، والاستعدادات الحربية ؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة " . وقد دون أفكاره الإصلاحية هذه في مجلة " المنار" التي استمّرت في الصدور بين عامي 1899-1935م وقد صدر منها خمسة وثلاثون مجلّدا ، ولقيت إقبالاً كثيفا في العلام الإسلامي، وامتد تأثيرها في أقطاره، وصار لها مؤيدون في كل البلدان التي كان يوجد بها تجمع إسلامي تقريبا وتجيد اللسان العربي الذي كانت تكتب به . . *مدير موقع التاريخ الالكتروني المصدر : موقع التاريخ