تبسط الحضارة الغربية الحديثة سلطان سيطرتها على كامل بقاع الأرض تقريبا، وقد كان المفروض أن تكون هذه الحضارة خادمة لمصلحة الإنسانية، وسببا لجلب مصالحها العاجلة والآجلة، ولكن الذي حدث أن هذه الحضارة تحولت إلى نقمة على الإنسانية، فقد حملت في ركابها الحروب المدمرة، وأسباب الموت الكثيرة، ولذلك فإن الغزالي، ورغم اعترافه بما جاءت به هذه الحضارة من أسباب الرفاهية واليسر للإنسانية، فهو يرى أن حسناتها أقل بكثير من سيئاتها. وأول ما يعيبه الغزالي على هذه الحضارة أنها رغم كشوفها الضخمة فهي مبتوتة الصلة بالله فيقول : " والغريب أن الحضارة الحديثة كشفت الكثير من عجائب الكون، وعاينت من آثار العظمة العليا ما يدفع إلى الله دفعا. ومع ذلك فهي واهية الصلة بالله لا تفكر في لقائه ولا تنتفع بوحيه ولا تكترث إلا بضروراتها المادية وما يرفه معيشتها على ظهر الأرض. وما دامت مبتوتة الصلة بالله فهي كذلك مبتوتة الصلة باليوم الآخر، فهي قد استبعدت ذكر الآخرة من حسابها، وجعلت التفكير فيها أو الحديث عنها لونا من الخرافة لا يخوص فيه العقلاء أو يخطر لهم ببال : " والقرآن عموما يؤكد أن الوجود الأول الذي نعيش فيه تمهيد لوجود آخر سوف نبعث فيه، وأن الذين يعرفون الله هنا سوف يعرفونه هناك. يمكن القول : إنه وجود واحد نحسّ مبادئه هنا أيام التكليف والمعاناة ونحس نهايته هناك أيام الحساب والمجازاة. والحضارة العصرية ترفض ذلك كله. ويؤكد الشيخ على ذلك فيقول : " إن الاستغراق في عبادة اليوم الحاضر، والذهول التام عما وراءه ديدن الحضارة الغربية. وخدم الديانات الأولى يرددون ألفاظا لا تقدم ولا تؤخر في مسير هذه الحضارة }إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) { {يونس : 7، 8} والمنطق المادي يستغرب القرآن الكريم، أو يستغرب الوحي كله، لانه مادي لا ينظر إلى السماء أبدا إلا عند التفكير في غزو الكواكب..!! إنه كفر شديد الغرور ويرى الغزالي أنه لا فرق في هذا المجال بين الحضارة الحديثة والجاهلية العربية القديمة : " أما عبدة الاصنام فإن المنطق الحسي كان يسيطر عليهم، والعمل للدنيا وحدها هو ما يشغلهم! وهذه أمراض تشبه ما وفدت به الحضارة الحديثة، فإن الناس في أوربا وأمريكا وحيث امتدت هذه الحضارة لا يهتمون بالله ولا بلقائه. هذه الحضارة تشجع وقوع المعاصي، بل وتوفر أسباب اقترافها والاشتغال بها والانهماك فيها : "ومن المشاهد أن الحضارة المعاصرة تجرأت على المناكر، ومهدت لها الطرق ،ولم تزل تواقعها حتى استباحتها، والزنا الآن لا يسمى زنا ، بل يسمى في أغلب الأحيان حبا أوصداقة. وقد دحرجت الأديان عن مكانتها في التربية، وفُسح الطريق أمام مذاهب لا إيمان لها ولا شرف ،والجهود الاستعمارية مبذولة كي ينتهي الإسلام إلى هذا المصير. ولذلك فهي تحمل في ذاتها بذور فنائها، لأن المعصية سبب لضياع الفرد وانهيار الجماعة : "المعصية العابرة لا تدمر المستقبل ، إنها تولد لتموت، وقد يلحقها من الندم ما يمحو لها كل ذكرى حسنة بل ربما كانت " لقاحا " يحصن من الوقوع في مثيلاتها، فنفعت من حيث ضرت! إن المعاصي التي تهلك الأمم هي التي تستقر في النفس ولا تعبرها ! تستقر فيها لتكون جزءا منها، ولتكون بعدئذ جزءا كبيرا من المجتمع الكبير، لعلها تتحول إلى تقليد متبع وإلى تشريع قائم، فيكون البعد عنها مستغربا والنهي عنها جريمة !!. وتدبر كلام قوم لوط له :} وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون{الاعراف : 82} لقد أمسى التطهر منكرا والتدنس مألوفا. والحضارات الفاجرة هي التي تهوي إلى هذا الدرك وقد ظهرت أمارات السقوط على الحضارة المعاصرة في جوانب شتى.. وأهلها بحاجة إلى من يقول لهم ما جاء في صدر سورة هود }الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ{ {هود :الآية من 1 - 3 } ومن المعاصي الخطيرة التي شجعت عليها هذه الحضارة بل ووضعت القوانين لإبقائها وحماية مقترفيها، جريمة اللواط، " واللواط مرض يظهر مع الإسراف الجنسي والحرمان الجنسي على سواء، وقد كان أصحابه يتوارون به استخذاء، حتى جاء الأوربيون والأمريكيون فأقروه ثم شرعوه. وكم من جماع شهواني أقرته هذه الحضارة ؟ ولكن العقاب الإلهي بالمرصاد.. وقديما حارب نبي الله لوط - عليه السلام- هذه الجريمة ودعا قومه إلى الإقلاع عنها، حتى جاءت هذه الحضارة وأحيت تلك السنة السيئة القديمة : وهناك من طغت حيوانيتهم فأسرفوا في الشهوات الجنسية إسرافا منكورا، وشذوا عن سنة الفطرة في الزواج الشريف، فقال لوط لهم :} وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) { {العنكبوت : 28، 29}. والغريب أن مدنية الغرب سارت في الطريق نفسه، حذو النعل بالنعل، وهي الآن تتعرض لطاعون " الإيدز " والسبب أنهم رفضوا الإطار الذي صنعه الإسلام حول الشهوة الجنسية وكيف جعل الزواج عبادة، وكيف صنع سدودا أمام المثيرات والمغريات بالحرام وإذا كانت هذه الحضارة قد شرعت جريمة اللواط فلا عجب أن تيسر أسباب الزنا والعلاقات الجنسية المحرمة بين الرجال والنساء، وتوفر الوسائل الكافية لنشرها ودفع الناس إليها كما منعت أيضا تطبيق عقوبة القصاص على القتلة، ورأت في ذلك تنافيا مع حقوق الإنسان : ".. والزنا عملة متداولة في الحضارة الحديثة، وهو أفضل من الكبت في مجال التربية عندهم، ولا يعاقب عليه قانونا ما دام بالتراضي !! والله يقول : }وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً { {الاسراء : 32} ومع أن قتل النفس جريمة فالقانون لا يقتل القاتل... وقد حرمت عقوبة الإعدام في دول كثيرة! وأدى ذلك إلى شيوع القتل وسفك الدماء الحرام } وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا { {الاسراء : 33 } ويظهر الغزالي ما وصلت إليه تلك الحضارة المزعومة في أعلى قممها الدينية :" ولقد هززت رأسي عجبا وأنا أسمع كاهن الفاتيكان الأعظم يناشد الناس أن يستعملوا الأغشية الواقية من الإيدز عندما يباشرون العلاقات المحرمة ! أهذه غاية الجهد ؟ أهذا عمل الدين؟ ومن مثالب هذه الحضارة كذلك، تشجيع الأولاد على التخلي عن رعاية الوالدين : " ومع عبادة الله وحده يجيء البر بالوالدين، ويدرك المرء قيمة هذه الوصاة عندما يتأمل في المجتمعات الغربية ويرمق ملاجىء العجزة، أي الآباء والأمهات عند الكبر لقد ضاقت بهم بيوتهم وابتعد عنهم أولادهم، وصاروا إلى هذه المباني المخصصة لهم حتى يدركهم الموت!! إن الأجيال التي وهبت الحياة للآخرين لم تجد لديهم لمسة وفاء، إنهم ينطلقون في الدنيا انطلاق الوحش في البرية، حتى إذا ولى شبابهم سكنوا في مساكن آبائهم بعد أن يخليها منهم الموت، وهكذا ... لقد صارت الأثرة قانونا ..!! والغريب أن الاباء يربون أولادهم حتى البلوغ فإذا جاء سن الرشد فلكل وجهة هو موليها ما تجمعهم في الدنيا إلا أعياد الميلاد، أو مناسبات خاصة ..." ومن مثالب هذه الحضارة أيضا تربية الإنسان على عبادة الذات : " الإنسان عادة حريص على مصلحته ويحسن الجري وراء حاجته، لكن هذا السعي قد يتورم ويربو ويسد عليه الآفاق فلا يعرف إلا مايريد، وما يبقى لله مكان في ضميره ولا في سلوكه ! إنه هو الأول والآخر !! والحضارة الحديثة صنعت أجيالا من هذا القبيل ارتبطت بهذا التراب فلا تبصر وراءه شيئا.. ومن مثالبها كذلك، التعصب للجنس الأبيض، الناشئ لديها من الاستكبار الذي يملأ نفوس أبناء هذه الحضارة : " وذهاب المرء بنفسه رذيلة، ويزداد السوء اذا ذهبت أمة بنفسها ! والتعصب الجنسي ينشأ من هذا الكبر الأعمى ... وهو من وراء النزعات القومية التي شاعت قديما وحديثا بين الناس. وهذا التعصب كان في الجنس الأبيض الذي يسكن أوربا وأمريكا الآن تظهره القوة ويخفيه الضعف. والحضارة الغربية لم تكتف بإشاعة هذه المثالب في بلادها بل ذهبت تصدرها إلى البلاد الأخرى : " والغرب الذي يدعى المسيحية يصدر للعالمين تقاليد العري والتبرج وانتهاك الحرمات، وما أظن تاريخ الدنيا شهد مثل هذا الدنس الذي ينشره هؤلاء الناس، لقد سميتها في بعض كتبي حضارة البغي والبغاء !! ووسائل الإعلام المختلفة تتسابق إلى بث الفتنة داخل البيوت، وتعرض صورا للرقص الغربي المزدوج والرقص الشرقي المفرد، يفرح بها الشيطان، وتزلزل الطهر المنشود. ولكن مع كل هذا الذي ينتقده الغزالي على هذه الحضارة، فهو يؤكد أنها حضارة باقية، لا تزال تنطوي على مقومات البقاء، ولا مطمع للمسلمين في التخلص من سيطرتها أو الخروج من دائرة هيمنتها، إلا إذا أوجدوا البديل الذي يعطي الإنسانية التائهة ما لم تستطع هذه الحضارة أن تعطيه لها وغيروا من واقعهم المنحط ومعاصيهم الكثيرة التي يتقلبون فيها.