يعتقد بعض الناس أن ما سُمي بالربيع العربي هو مؤامرة , ويعتقد أخرون أنه كان لحظة نادرة في تاريخ أمتنا وكان أجمل ما فيها , لكنه انتهى, وعاد الوضع الى ما كان عليه من قبله .. ولعله من المناسب أن ندقق في الأسم (الربيع) , فما من حياة يستمر فيها الربيع, فالحياة ربيع وشتاء وصيف وخريف, والإنسان, ما بين عليل وصحيح,وما بين ميلاد وطفولة وشباب ورجولة وكهولة وموت . وكذلك الدول , والحضارات . هل يمكن لنا أن تصور (الآن) أن أثيوبيا قادرة على أن تتجاوز بجيشها افريقيا , لتصل الى قارة آسيا فتحتل اليمن , وتهاجم الحجاز ؟ حدث ذلك من قبل في زمن أبرهة الحبشي, فأين اثيوبيا الآن ؟ لقد بسطت روما سيطرتها على كثير من ربوع الأرض واستطاع يوليوس قيصر تحويل الجمهوريه الرومانيه الى الإمبراطورية الرومانية , وتنازع معها على النفوذ العالمي الأمبراطورية الفارسية , كانتا في صدارة الدنيا ثم تراجعتا , تقدمت انجلتراوفرنسا ثم تأخرتا ..تقدم الأمريكان والسوفيت , ثم تغيب دولة السوفيت عن الوجود .. لتتحول الى دول ودويلات .. وهكذا من قديم وحديث.. تراكم مفيد ما من تجربة (مُفرحة أو مؤلمة) تمر على الأفراد, أو المجتمعات, إلا ولها فائدة, فقد يحزن انسان لوفاة والده, وقد ترتبك أحوال العائلة, لتمضي الأيام وتكتشف بعض العائلات أن وفاة الوالد قد استنفر همم الأولاد والأسرة فأصبحوا على قدر المسئولية ثم اصبحوا على خير حال .. إننا لا نستطيع أن نقول أن موسى عليه السلام لم يحقق نجاحا مع بني اسرائيل, فبعد أن انقذهم من استبداد فرعون وعبر بهم البحر ورأوا بأم اعينهم المعجزة , أرادوا عبادة الأصنام, ثم تركهم موسى للقاء ربه فعبدوا العجل, ورفضوا دخول القرية المقدسة فكتب الله عليهم التيه, ومات موسى وهم في التيه ..فهل يعني ذلك أن نجاحا لم يتحقق على يد موسى ؟ بعد فناء الجيل الذي عاش في ظل الاستعباد والذل, لم يرد الله أن يحقق على يديه خلاصا, جاء جيل جديد تربى في غير مناخ الذل والاستعباد, أوقف الله لهم غروب الشمس ليستكملوا تحقيق النصر .. إن لقطة تحقيق النصر في زمن يوشع بن نون, ما كانت لتتحقق إلا لجيل أخر, نشأ في غير زمن الفرعون, وما كان خلاصهم من فرعون إلا على يدي موسى .. وكأن ما فعله موسى كان تمهيدا لما بعده .. وهو يعكس معنى البناء حجر فوق حجر في تراكم مستمر ليعلو البنيان . لقد احتل هتلر فرنسا , ومشى جنده تحت قوس النصر في باريس يتباهون بنصرهم, لكن تلك الهزيمة استنفرت همم الشعب الفرنسي, فقاوم المحتل حتى هزموا الألمان وأخرجوهم من فرنسا, لم تُهزم ألمانيا فحسب ,بل سقط هتلر وسقطت النازية .. الربيع المُخلِّص في الثقافة المسيحية , يؤمن المسيحيون بأن المسيح هو المُخلص " لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (متى1: 21) - كما يؤمنون أنه افتدى الناس بنفسه, فكما قيل أنه جاء على لسان بولس الرسول :"إن المسيح يسوع بذل نفسه لأجلنا يفدينا من كل إثم" (تى2: 14).. قد تبدو هذه الفكرة جديرة بالاهتمام , لكنها تحمل في طياتها أن المؤمنين بها وكأنهم ليس عليهم بعد ذلك من عمل , فقد أغناهم المسيح عن ذلك حين خلصهم , وحين افتداهم بنفسه .. أما في حياتنا , فلا نستطيع القول أن الخلاص يتحقق مرة وينتهي , بل تظل محاولات الناس مستمرة ودائمة لا تنتهي في سعيهم الدائم لتحقيق الأفضل .. لأنه ما من ربيع دائم لشخص أو حزب أو جماعة أو دولة أو أمة , وقد حسمها ربنا بقوله : ( وتلك الأيام نداولها بين الناس) ..والتعبير القرآني المُعجز عن التداول أوضح أيضا أنه بين الناس المؤمن منهم وغير المؤمن .. بداية , لها ما بعدها . اعتبر كثيرون أن الربيع العربي انطلق من قرية سيدي بوزيد يوم الجمعة 17ديسمبر 2010م حينما صفعت شرطية (فادية حمدي) الشاب محمد بوعزيزي لاعتراضه على مصادرة السلطات البلدية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، حين صفعته الشرطية أمام الملأ وقالت له بالفرنسية ( Dégage) أي -ارحل - فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للإطاحة برئيس تونس زين العابدين بن على وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة. وأحسب أنه لا يمكن لمنصف أن يقول إن جهود شعوبنا لاستراداد كرامتها وحريتها قد بدأ من ذلك التاريخ وتلك الحادثة, وكأن كل ما كان قبله من جهود لم يكن ليراكم مخزون الغضب انتظارا للحظة مواتية, ولا يمكن ايضا اهدار كل ماتم بعد هذا التاريخ بزعم أن الأهداف لم تتحقق بعد في تجاهل مذهل لفعل التراكم ولمخزون الشعوب وذاكرتها. وعلى ذلك,نحن لا نستطيع القول أن ما سُمي بالربيع العربي قد أغنانا عن ما بعده أو أنه أنتهى أو أن نظل أسرى لحظة كانت ومضت, ولم يبق لنا إلا تجرع الحسرة والمرارة والندم .. لكن علينا أن ننهض ونبدأ ونعمل من جديد ..سعيا لربيع أخر.. لأن الأيام دول وتدور وتتبدل فيها المراكز.. وفي ظني أن ربيعنا القادم لن يكون بعيدا ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.