ثمة نمطان للتفكير والسلوك ضمن أنماط الفكر والسلوك الإنساني المتنوعة ، أولهما الملتزم حرفياً بالقواعد الموضوعة سلفاً لا يحيد عنها ، والثاني يتسم بالمرونة والقدرة على الحركة الحرة والمناورة ، الأول ما نسميه بالتفكير داخل الصندوق والثاني بالتفكير خارجه ، ولا شك أن لكل من هذين النمطين مجاله في الحياة ، ففي مجال العقيدة والسلوك والعمل الإداري التنفيذي نجد الأول هو المفضل ، أي العمل وفق قواعد السلوك المحددة سلفاً لأن العقيدة والعبادة مصدرهما التوقيف من الله ، ولهذا كان شعار النبي r فيهما ( صلّوا كما رأيتموني أصلي ) و ( خذوا عني مناسكَكم ) والعقل إذا ذهب يجتهد في جعل الصلاة الرباعية ثلاثية أو العكس أو يجتهد في تغيير أيام الحج أو جعلها في أشهر الحج كلها .. أفسد العبادة . والنمط الثاني من التفكير والسلوك (خارج الصندوق ) هو المفضل في مجال السياسة والحرب والمتغيرات من العوائد والعلوم ، وقد كان شعار النبي r في هذا المجال ( أشيروا عليّ أيها الناس ) وهذا مجال واسع للاجتهاد والإبداع ، والمشاورة في هذا هي أساس النجاح ، والصندوق في هذا معتبر بلا شك لكنه ليس أساس النجاح والإبداع . إن الشورى الصادقة في مجال السياسة والحرب وإدارة الدول هي مناط النجاح والإبداع وهكذا كان النبي r في عالم السياسة والحروب وإدارة الأزمات يستشير أصحابه كما حدث في غزوات بدر وأحد والأحزاب .. وغيرها . النمط الأول من التفكير والسلوك يشبه حال سائق القطار ، فهو محكوم بنظام محكم ومواعيد محددة ، ولا مجال كبيراً لديه للاجتهاد ، فإما اتباع التعليمات وإما الكوارث ، والنمط الثاني يشبه حال قائد السيارة ، حيث لديه القدرة على الحركة والمناورة وتجنب الطرق المزدحمة والتحكم في السرعة .. والنزول للراحة .. وهذا مجرد تشبيه . ثمة درسٌ قاسٍ تلقاه الصحابة حين اعتمدوا في عالم الحرب والسياسة على معطيات الصندوق فقط ، وهو درس غزوة حنين حيث كان عددهم اثني عشر ألفاً وعدد عدوهم أربعة آلاف فقال قائلهم : لن نُهزمَ اليومَ من قلّة !! فكمن لهم عدوهم بالشعاب ورؤوس الجبال ثم أمطروهم بالنبال والسهام حتى انسحبوا سراعاً وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أصحابه ، وفي صحيح البخاري أن رجلاً قال للبراء : يا أَبَا عمَارَةَ ، وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ونزل القرآن بالدرس المبين ] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [[التوبة : 25 ، 26] . هذه المقدمات تلقي بظلال ومسئوليات على الذين يحكمون مصر اليوم ، ها نحن نقول لهم : لقد وقعتم فيما فررتم منه ! شكوتم انفراد الإخوان بالحكم في سنتهم اليتيمة ، وهذا لم يكن صحيحاً بقدر ما كان دعاية معادية لهم ، ثم ها أنتم تفعلون الشيء نفسه اليوم مع أكثر شركاء الوطن ، ثمة إقصاء مقصود منظّم مرعب لكثير من شركاء الوطن ، فإلى أيِّ صندوقٍ تحتكمون ؟ لقد محوتم بجرّة بنادقكم نتائج ستة صناديق سابقة كانت الأغلبية فيها لغير نظامكم القائم اليوم ، فهل استقام لكم الأمر ؟ هذه رسالة واضحة للقادم عمّا قريب ، لن يستقيم لك الأمر بالقهر والتسلط والإقصاء سوف يستقيم فقط بالشورى الجادة وعدم الإقصاء والمصالحة الحقيقية لا الصورية . القيادة في السياسة والعلم والإدارة إبداع ، فإذا لم تكن مبدعاً فعليك بقيادة دفة الإبداع بالشورى والمناصحة وإسناد الأمر إلى أهله ، شورى أهل العلم والخبرة لا أهل الثقة فقط ، فأهل الثقة دائماً مشورتهم لمصالحهم الخاصة قبل العامة . إن الإبداع العلمي والسياسي والإداري جاء غالباً عبر التاريخ من النظر البعيد خارج جدران الصناديق ، أعني النظرَ الضيق الأفق ، والأمثلة كثيرة .. كانت هيلاري كلينتون تنافس أوباما في ترشيحات الحزب الديمقراطي للرئاسة .. وكان ذلك كافياً – في العقلية العربية – أن يجعل منها عدواً لدوداً ينتظر السجن ، لكنه اختارها للخارجية !! وفي مجال العلوم أمثلة كثيرة ، كان ألكسندر فلمنج يلاحظ أوعية تجاربه (سنة 1928) وكان على وشك أن ينظف أحدها من العفن ..حيث تعرضت إحدى مزارع البكتريا للهواء وتسممت .. ولاحظ فلمنج أن البكتريا تذوب حول الفطريات في المزرعة التي أعدها في المعمل ، واستنتج من ذلك أن البكتريا تفرز مادة حول الفطريات وأن هذه المادة قاتلة للبكتريا العنقودية ، هذه المادة أطلق عليها اسم البنسلين أي العقار المستخلص من العفونة .. وبهذا قدّم للبشرية أهم دواء في تاريخها : المضادات الحيوية !! وفي كتاب ( فن البحث العلمي – تأليف بفردج ) يورد هذه القصة الدالة ، في عام 1822م وضع الفيزيائي الدانمركي ( أورستد ) في نهاية إحدى محاضراته سلكاً متصلاً عند طرفيه بخليّة فولتية فوق إبرة ممغنطة وفي وضع موازٍ لها ، وكان قد تعمد بادئ الأمر أن يمسك السلك في وضع رأسي بالنسبة إلى الإبرة فلم يحدث شيء ، ولكنه دهش إذْ رأى الإبرة تغير وضعها حين أمسك بالسلك - مصادفة - في وضع أفقي وموازٍ لها ، وببديهة حاضرة عكس التيارَ فوجد أن الإبرة انحرفت في الاتجاه المضاد .. وهكذا كشف العلاقة بين الكهرباء والمغنطيسية .. ومهد الطريق أمام ( فارداي ) لاختراع المولد الكهربي .. أحد الاختراعات التي غيرت وجه الحضارة !! وقال باستير معقباً على هذه القصة : في مجال الملاحظة لا تُقبِل الصدفةُ إلا على الذهن المتأهب لها !! في عالم العلوم والسياسة والقيادة والتخطيط هناك حاجة إلى الإبداع والإخلاص وكثير من الخيال الإيجابي ، أما روح الانتقام والتشفّي والقهر والاستبداد فلا تبني إلا أمماً فاشلةً !