الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين ... وبعد: فإن العينَ لتدمعُ، وإن القلب ليحزنُ، وإنا على فراق المجاهدِ البطلِ أسامةَ بنِ لادن لمحزونون، وبتزييف الوَعي وقلةِ الإنصاف وقلبِ الحقائق لمبتلَون. سَأَبْكِيكَ مَا فَاضَتْ دُمُوعِي فإنْ تَغِضْ ... فحَسْبُكَ مِنِّي مَا تُجِنُّ الجَوَانِحُ كَأَنْ لمْ يَمُتْ حَيٌّ سِوَاكَ ولمْ يَقُمْ ... عَلَى أَحدٍ إلَّا عَلَيْكَ النوائحُ كَذَا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ أوْ يَفْدَحِ الأمرُ ... فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لمْ يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ كَأَنَّ بَنِي العبَّاسِ يومَ وَفاتِهِ ... نُجُومُ سماءٍ خَرَّ مِن بَينَهَا البَدْرُ لقد قُتل الشيخُ المجاهدُ -رحمه الله تعالى وأنزله منازل الشهداء- على يدِ قوةٍ أمريكيةٍ ظالمةٍ غاشمةٍ، لا ترقُب في مؤمن إلًّا ولا ذمةً، وراحو يفتخرون بقتله بعد مطاردته عشر سنوات! ولستُ أعرف في تراث المسلمين وصفاً لمسلمٍ قَتله الكفارُ في ساحة القتال إلا الشهادةَ. وإني لأعجب من قومٍ فرحوا بقتله، أو أثنوا على قاتليه؛ وهم يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويؤمنون بقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» [النساء: 93]. وبقوله ^: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا يا رسول الله: وما هنَّ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» خرجه الشيخان عن أبي هريرة س. وقولِه ^: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» خرجه الترمذي وغيرُه عن عبد الله بن عمرو ب. ونظر ابنُ عمر ب يومًا إلى الكعبة فقال: «ما أعظمَك وأعظمَ حرمتك، والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك» خرجه الترمذي وغيرُه. والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وهو أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. إن الشيخَ أسامةَ بنَ لادن رجلٌ مسلمٌ لا ريب في ذلك، مجاهدٌ بلا شك، وهو فيما كان يأتي ويذرُ ليس بالمعصوم، تعرف منه وتنكِر في التفاصيل، لكن هل ينكَر مبدأ الجهاد ضد المحاربين والمحتلين؟ وأسامة بنُ لادن رجل من أهل السنة؛ إذ ليس هو متبنيًّا لأصل كلي بدعي، فلا هو يكفِّر المسلمين إجمالًا، ولا غير ذلك من الأصول البدعية، فإن وقعت منه أخطاء؛ فهي في الجملة مما للتأويل فيه مساغ، بل لو جزمنا بخطئه في بعض ما ذهب إليه؛ فهو خطأ لا يخرجه عن الملة، ولا عن عصمة أهل القبلة، ويبقى قتلُه قتلًا للنفس التي حرم الله إلا بالحق، وهو من أكبر الكبائر وأعظم الموبقات، فأَنَّى لمسلمٍ أن يقرَّ ذلك فضلًا عن أن يفرح به. وأما حسناتُ الرجلِ وجهادُه، وحملُه لواءَ الجهاد أمام المحتل حين كان غيره يميِّع القضايا وينكر مشروعية الجهاد، ورفعُه الإثمَ عن قطاع عريض من المسلمين بقيامه بهذا الواجب، وتسببُه في تحرير بلاد الأفغان من الاحتلال السوفيتي، وتركُه حياةَ الدعة والرفاهية، وإقبالُه على الجهاد حتى ليصدقُ فيه – إن شاء الله- قوله ^ فيما رواه أبوهريرة س: « مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ، لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ» رواه مسلم؛ فكل ذلك أمر لا ينكره إلا جاحد. لقد كان المجاهدُ أسامةُ بنُ لادن أمةً وحدَه في الجهاد ضد العدو المحتل، وكان الناس جميعًا يقرون له بذلك يوم كان يحارب السوفيت، فلما قُضي عليهم بفضل الله واتجه البطلُ إلى الأمريكان يقاومهم ويجاهدهم؛ تعارضت المصالح ونبذه أذيال الأمريكان من بني قومنا، وظل هو على العهد إلى أن لقي ربه. وكما قال عبدة بن الطيب: عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ يا قَيسَ بنَ عَاصمٍ ... ورَحمتُه مَا شَاءَ أنْ يَتَرَحَّمَا ومَا كانَ قيسٌ هُلكه هلكَ واحدٍ ... ولكنَّه بُنيانُ قومٍ تهدَّمَا فلماذا كان قتال المحتل السوفيتي جهادًا وبطولة، وقتال الأمريكي إرهابًا! وأيُّ مسوِّغٍ للتفريق بين الجهادَين من عقل أو شرع! فرحمةُ الله على أسامةَ، لقد رحل غريباً! لعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدَ مالٍ ... ولا شاةٌ تموتُ ولا بَعِيرُ ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ قَرْمٍ ... يَمُوتُ بِمَوتِهِ بَشَرٌ كَثِيرُ واليومَ يفخر الأمريكان أدعياءُ حقوق الإنسان بقتل رجلٍ بلا محاكمة عادلةٍ، ولا جريرة ثابتة، وإلقائِه في البحر!، في تحدٍّ صارخ لمشاعر المسلمين والعرب، واستفزازٍ لكل حر شريف. فيا عبادَ الله هل في دساتير العالم وقيم الأمم أن يقتل امرؤ بلا محاكمة، ثم يلقى في البحر –وكرامة المرء دفنه-! هل يقر عاقل أو شريف أن يلقى ميت ولو كان أعتى المجرمين في البحر بعد موته! أجلْ، لقد ألقَوه في البحرِ فصدق عليه قولُ الأول: فيا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْف وارَيْتَ جُودَهُ ... وقَدْ كانَ مِنْه البَرُّ والبَحْرُ مُتْرعَا بَلَى قد وَسَعْتَ الجُودَ والجُودُ مَيِّتٌ ... ولَوْ كانَ حَيًّا ضِقْتَ حتَّى تَصَدَّعَا ويا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوَّلُ حُفْرَةٍ ... مِن الأرْض خُطَّتْ للسَّماحَةِ مَضْجَعا لقد أفضى أسامةُ إلى ربه، وقُتل كما تمنى شهيدًا، ولم يسلِمْه الله إلى الأعداء ينكلون به، ولقد مات مرفوعَ الرأس كما عاش كذلك، وما فرِح بموته إلا مرضى القلوب! مَضَى لِسَبِيلِهِ مَعْنٌ وأبْقَى ... مَحامِدَ لَنْ تَبِيدَ ولَنْ تُنالا هَوَى الجَبَلُ الذي كانَتْ نِزارٌ ... تَهُدُّ مِن العَدُوِّ به جِبالا فإن يَعْلُ البِلادَ به خُشُوعٌ ... فقَدْ كانَتْ تَطُولُ به اخْتِيالا ولَمْ يَكُ طالِبُ المَعْرُوفِ يَنْوِي ... إلى غَيْرِ ابنِ زائِدَة ارْتِحالا ثَوَى مَنْ كانَ يَحْمِلُ كُلَّ ثقْلٍ ... ويَسْبِقُ فَيْضُ راحَتِهِ السُّؤَالا مَضَى لِسَبيلِهِ مَنْ كنتَ تَرْجُو ... بهِ عَثَراتُ دَهْرِكَ أَنْ تُقالا فَلسْتُ بمالِكٍ عَبَراتِ عَيْنِي ... أَبَتْ بدُمُوعِها إلاَّ انْهِمالا كَأَنَّ الشَّمْسَ يومَ أُصِيبَ مَعْنٌ ... مِن الإظْلامِ مُلْبَسَةٌ جِلالا أيها الإخوة الكرام: نحن الآنَ أمام قضية واضحة جلية: هل يفرح المسلم بقتل أخٍ له على أيدي الكفار المحتلين مهما كان مختلفًا مع هذا المقتول؟! وهل يسوغ عند دعاة حقوق الإنسان قتل رجل بلا محاكمة عادلة ثم إلقاؤه في البحر؟! إن كان الجواب بنعم؛ فليراجع كلٌّ إيمانَه وقيَمَه ومبادئَه، وقلْ على ذلك كلِّه السلام. اللهم اغفر لعبدِك أسامةَ بنِ لادن، وارفع درجتَه في المهديين، وبلِّغه منازلَ الشهداءِ والصالحين، وتجاوزْ عن سيئاته يا رب العالمين، وأَخْلِف على الأمة أضعافَه من المجاهدين الصادقين، وألحقنا به على الإيمان واليقين.