1- لم أشعر من قبل بشعور "اليٌتم" إلا في يوم الجمعة 6 نوفمبر 2009.. يوم أن وارينا – الثرى – أستاذنا و فقيدنا العظيم د. عصام الدين حامد الشربيني .. لقد مات أبي – رحمه الله – عن عمر يناهز 56 سنة و لم أكن موجوداً عند الوفاة (و لذلك قصة)، ثم ماتت أمي –رحمها الله – و دٌفنت بإمارة الشارقة (ولذلك قصة أخرى)، ثم مات شقيقي المحامي "محمد المؤتمن" – قبل ثلاثة سنوات – رحمة الله – و حٌرمت من حضور جنازته (و لذلك قصة ثالثة)، و لقد تأثرت بغياب أولئك جميعاً، لكن أشهد أن التأثير بموت فقيدنا يختلف: نوعاً و عمقاً. 2- إن عثور المرء على أخ يتفق معك في الرؤى حول الأحداث و المواقف و الأشخاص يٌعد أمراً نادراً في زمننا هذا، فما بالك إذا كان الأمر ليس اتفاقاً في الرأي و حسب و لكنه إتحاد تام: هنا يتجلى حجم المصاب و فداحته. 3- لقد ألزمت نفسي أن أزوره دائماً يوم أن تفرق عنه العاقون !! و في الفترة الأخيرة كثّفت من زيارتي له، فما من أحد يزورني من خارج الكويت إلاّ و آخذه معي إليه، كان هذا قبل قدوم شهر رمضان ثم العيد و بعده ، جاء – من البحرين – عبد الرزاق المحمود – و كثيراً ما كان يراه قبل الغزو العراقي،و رغم دخوله المجال الصوفي البحت إلا أنه ارتاح له كثيراً .. و جاء من ماليزيا – محمد رسلى – مندوب الحزب الإسلامي .. و جاء من اليمن و من بريطانيا و كان آخر هذا الرهط الكريم – من الكويت – فضيلة الشيخ "أحمد الجمل" – كان آخر من زاره – قبل وفاته – بحوالي عشرة أيام.. و لأنه من بلدته " المنصورة" حيث نشأ – فقد طالت الجلسة و جاء ذكر الرجل العظيم "د. محمد خميس حميدة" عضو مكتب الإرشاد – رحمه الله – و دوره في أحداث عام 1954.. و طلب مني الفقيد أن آتي بالشيخ "الجمل" مرة أخرى.. ليواصل الحديث معه خاصة و أن والد الشيخ كان عضواً في الهيئة التأسيسية لجماعة الأخوان المسلمين. 4- للإمام الجليل و الصحابي المعروف "عبد الله بن مسعود" قول منسوب إليه، يقول: [ من أراد منكم أن يسْتن: فليسْتن بمن قد مات فإن الحي لا تٌؤمن فتنته] و من خلال معايشتي و صحبتي التي امتدت لأكثر من 44 عاماً فإني أشهد أن أخانا الفقيد كان حريصاً على "كمالات السلوك": عملاً و ليس قولاً و تنظيراً، و ينتظم – في هذا – عمله الطبي و عمله الدعوي، و لعل أبرز القيم التي يتحلى بها: قيم الزّهد – الثّبات – الوفاء – قول الحق و عدم السكوت على العوج. • كان زاهداً – بحق – في المسكن المتواضع و في المأكل و الملبس، و يتحرىّ الحلال في كل ذلك، و لقد صاحبته في سفر و تعاملت معه بالدينار و أشهد أنه من الصادقين. كان معرضاً عما ألفه البعض من زخرف الدنيا، و كانت سعادته في غشيان مجالس العلم،و كم كانت نفسه في حٌبور، يوم زيارة العالم الجليل فضيلة الشيخ "بدر المتولي عبد الباسط"، و كان يحرص على أن أكون معه في ضيافة هذا العالم الجليل، و كان دائماً يذكر بالإجلال و التقدير العلماء الأثبات محمد أبو زهرة، عبد الوهاب خلاف، علي الخفيف، عبد الله دراز، محمود شلتوت، محمد الخضر حسين، و غيرهم، إنه بقدر ما كان عازفاً عن حطام الدنيا، كان نهماً إلى سماع و مطالعة مواريث السماء. • و في "الثبات"، كان على خط الأمام البنا، و قد عايشه واقعاً و ممارسة.. و كان يرى أن الاجتهادات التي قام بها البعض، قد انحرفت عن هذا الخط، و أنه لابد من تعديل المسار و العودة إلى الأصل، و كم اختلف مع الآخرين، و تحمّل مع غيره ضريبة هذا الاختلاف، و هناك أكثر من شريط يحمل من الأمثلة و الشواهد ما يدل على صدق مقولاته كلها. • و في مجال "الوفاء" كان في قمة هذه الخصيصة، التزاماً و أدباً، نحو دعوته و رموزها الكبار، فإن ذكر أستاذنا د. حسان حتحوت فيذكره على أنه أستاذنا رغم أن فارق السن لم يكن كبيراً (خمسة سنوات فقط)، و كان يقول لي "يا شيخ مأمون خلّ إخوانك يطالعوا ما كتبه أستاذنا حسان: (أ) "العقد الفريد 1942-1952" (ب) على هذا ألقى الله"، إن هذين الكتابين يهما من المفاهيم ما يعتبر زاداً بعيداً.. بعيداً جداً عن حظ النفس، و كان يصف أستاذنا " د.توفيق الشاوي" بأنه وٌلد كبيراً و عاش كبيراً... و عندما أسرد بعض الأسماء من زيد أو عمرو، و بعضها حطّ من قدر هذا الرجل العظيم – و الكلام مسجّل في شريط – كان يقول "دعك من هذا الكلام.. هؤلاء صغار.. فقط فالحين في التحشيد و التجنيد و الجباية و الخراج"!! ثم يذكر أستاذ الجميع أستاذنا محمد فريد عبد الخالق –آخر عضو مكتب الإرشاد في زمن الإمام البنا – و كان أول رئيس لقسم الطلبة في الجماعة منذ الأربعينات – و الجميع تربّى على يديه – و لكن فقيدنا (حزين)، لأن أستاذ الجميع لازال حياً و لكن البعض يهجره – و لا يزوره و لا يستثمر الكم الهائل الذي يملكه من تراث الجماعة، [أليس هذا بٌعداً عن الصواب.. إن جماعة لديها أستاذنا محمد فريد عبد الخالق و لا تسال عنه هي جماعة في حالة إعياء كحالتي الآن] • و في مجال قول الحق و عدم السكوت على العوج: فحدث و لا حرج.. فقام ناصحاً و مٌنّبهاً إلى بعض الأخطاء التي تراكمت دون علاج.. ثم مٌحذراً عما تؤول إليه الأمور، لقد جاءت إليه المسئولية، و يوم أن وجدها تحيد – تحت ضغط البعض- تركها و لم يبالي. • إن قضيتنا المركزية الآن هي مصر – و هنا أسجل له آخر ما قاله: أ- أنا لا أسمح لنفسي و لا أرضى لغيري أن تهاجم بلدي مصر من أي إنسان خارج مصر.. من يريد أن يهاجم و عايز يكون (جدع) فليذهب إلى هناك، و ما يسمى بلجنة إنقاذ مصر في لندن و غيرها أمور خاطئة لا نقرها و لا ندعو إليها. ب- مصر هي القضية المركزية: و لن تحل قضية فلسطين اليوم و غداً إلا إذا حٌلت قضية مصر.. و ذلك بأن تعود (مصر) كبيرة كما كانت.. لقد أهملنا هذا و أخذتنا العاطفة و شحذنا كل الهمم و الطاقات و لم نقصّر في المدد المالي و البشري – و أنت تعلم هذا و شاركت فيه – و نسينا تماماً بلدنا، لابد من إعادة ترتيب جدول الأولويات، و كان الإمام يستطيع إرسال آلاف المتطوعين لفلسطين، و لكنه أرسل الآحاد فقط و ليس من كل الشٌعب، و لماذا؟ لأنه كان يرى أن المعركة الحقيقية ليست هناك في فلسطين.. إنها هنا في مصر، هل يعي إخوانك الآن هذا البعد الاستراتيجي؟ أم أن العاطفة التي نشأنا عليها و ظلت معنا إلى الآن هي المحرك لحركتنا؟ 5- لقد استرسلت كثيراً، و الحديث ذو شجون، و لكن حسبي أن اذكر شيئاً مما كان يعتمل في صدر الرجل قبل وفاته مباشرة، لعله يلقى الضوء على بعض ما كنا نجهله من فكر الرجل الذي حركته الأحداث و تطور معها و أصبح يمتلك وضوح المنهج و يمتلك أدواته الصحيحة في آن واحد و من هنا تأتي خسارتنا الحقيقية التي عبر عنها الشاعر: سأبكيك ما فاضت دٌموعي فإن تغض فحسبٌك منّي ما تٌجّن الجوانح فما أنا من رٌزء و إن جلّ جازع و لا بسٌرورٍ بعد موتك فارح كأن لم يمت حيّ سواك و لم تقم على أحدٍ إلا عليك النّوائح محطات صغيرة: 1- هذا المقال كتبناه و أرسلناه لمجلة المجتمع بناء على رغبة الشاب النشط (شعبان عبد الرحيم) مدير التحرير، و قد تم – للأسف – شطب حوالي تسعة (9) أسطر دون إذن مني أو بلاغ. و اليوم ينشر المقال الأصلي دون حذف لأن أجواء الحرية في صحيفة (المصريون) متوافرة و لله الحمد. و يأتي هذا النشر بناء على رغبة إخوة كرام رأوا أن ذلك أدعى أن يطالعه عدد أكبر. 2- الردود التي كانت على المقال الماضي بعضها يحمل أسماء غريبة و رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه و آله و سلم قد نهى عن تسمية الأسماء التي لا تليق بالإنسان و كثيراً ما غير أسماء لم تكن طيبة – عموماً فلن أرد عليها لأنها لا تليق، و بعضها باللهجة العامية و لن أرد عليها لأن الله تعالى تعبدنا باللغة العربية، و بعضها تأثر كثيراً لفلان دون فلان و نسى الحدث نفسه و هذه طامة كبرى أن نركز على الانحياز للأشخاص دون الانحياز للحق و هذه إحدى ثمرات التربية الحزبية، و بعضها يحمل الدعاء لنا بظهر الغيب، و أبادله كما أشكر "محمد نصر" على رسالته التي تحمل معاني جميلة خاصة في مجال (ترقيق القلوب) و التي نفتقدها وسط عالم السياسة. و أنبه على بعض القارئين أن يطالعوا ما كتب دون خلفية سابقة، أو تعصب لجماعة، و ليعلموا أن المؤمن و المسلم عامة ينبغي عليه أن يكون وقافاً عند الحق رجاعاً إليه مهما كان مٌراً. [email protected]