لقد أدهشتني تلك الثورة المباركة التى لم يكن يتوقعها أحد ، وإن كانت إرهاصاتها متوقعاً حدوثها يوماً ما ، لاسيما وقد تفشت البطالة وانتشرت الرشوة وعّم الفساد ، فضلاً عن تحكم عدد غير قليل على مقدرات مصر كعز الحديدي وغيره ممن سار على منواله في مصر . ومما زاد من دهشتي أن المخابرات الأميريكية برغم حصافتها لم تتوقع تلك الثورات ، لاسيما في مصر ، وتونس ، حيث متانة العلاقة بينها وبين مبارك وبن علي ، حاميا حمي مصر وتونس وما حولها حتى إسرائيل فهما ذوي قلوب كبيرة تسع الجميع . ولقد راودتني نفسي أن أكتب شيئاً يجول بخاطري عندما رأيت تجدد المظاهرات أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون الأسبوع الماضي لفريقين أحدهما يريد محاكمة مبارك ، والثاني يرى عكس ذلك تماماً مستندين إلى فضله عندما اتخذ قراره الجريئ بتخليه عن منصب الرئاسة ؛ وهنا تلقفت قلمي لأخط كلمة قد تجبر تقصيرى تجاه بلدي إذ لم أتمكن من الحضور والمشاركة في ميدان التحرير لسفري حتى هذه اللحظة طلباً للرزق خارج البلاد ، إلا أننى كنت معهم قلباً وقالباً ؛ وانطلاقاً مما سلف فما موقف الشريعة الإسلامية من محاكمة مبارك ، لاسيما بعد أن رأينا موقف القانون واضحاً بحبسه احتياطياً تمهيداً لما قد يتكشف من حقائق ضده ؛ ولما كنت ممّن درّس الشريعة والقانون وتمرّس فيهما سواء في محاكم مصر أم في مجال تدريس النظريات الجنائية لطلابي فى قسم الشريعة بالأزهر فرأيت من واجبي أن أعبّر عما يختلج في نفسي ؛ ذلك أن محاكمة مبارك تثير للوهلة الأولي كثيراً من الحساسية لاسيما ونحن أمام وقائع قانونية يستلزم تمحيصها للوصول إلى توجيه اتهام قائم على دليل كامل صحيح ، لا يقبل التأويل ، لأن الأصل في الشريعة الإسلامية البراءة، ومراعاة مبدأ لأن يخطأ الإمام في العفو خير له من أن يخطأ في العقوبة . ولمبارك في نظر الناس رأيان: الأول: أن مبارك قد أراحنا من تخبط الجيش والشرطة في مواجهة جموع الشعب ، وفضلُهُ باقِ على مصر ، أليس هو واحداً ممن ردّ كرامتنا في حرب أكتوبر 1973م ، أليس هو الرجل الخلوق الذى لم يتفوه يوماً بسبّ قطّ ، فهذا الرجل يحكمهُ عقل مستنير ، وتسّيره مصلحة شعبه ، وقد بدى هذا جلياً عندما أفسح الساحة للشباب طواعية ، رغم بأس جيشه وقوة شرطته، هذا رأى الفريق الأول. بينما يري الفريق الثاني بضرورة محاكمته فلا أحد فوق القانون ، ويكفي الفساد العريض الذى سببه فترة حكمه متمثلاً في وزرائه ومستشاريه ، ولعل هذا الرأى الأخير فيه تحقيق لمبادئ الشريعة والقانون من ضرورة تحقيق العمومية والتجريد ، حيث إن العقوبة يجب أن تكون عامة لكل من ارتكب معصية وقد أعلاها رسولنا الكريم قائلاً عندما تشفّع عنده أحد أحب أصحابه فغضب قائلاً: " وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " ؛ غير أننى أزعم أنَّ لي رأياً ثالثاً فيه تفصيل يجمع بين الرأيين السابقين ، إلا أنه يتعين القول به بعد بيان مدى مسؤلية مبارك عن قتل المتظاهرين الُعزّل .. فإن الشريعة الإسلامية تعلن أنه لا تسامح في الدماء مهما كان ، وقد سطَّر الفقهاء في كتبهم أن :"من أُكره على قتل غيره استبقاء لنفسه ، يُقتل به " ، ولعلي أستند في رأيى هذا إلى أقوال فقهاء الشريعة الذين فرّقوا بين القتل بالمباشرة أو القتل بالتسبب ، والثابت أن مبارك لم يقتل بالمباشرة ، مما يستلزم أن يؤول الأمر إلى الدية لقوله تعالي (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (سورة الاسراء : من الآية33) ومن ثم فإن هؤلاء الضحايا تكون ديتهم في مال مبارك أو بيت مال المسلمين ، وهى وزارة المالية الآن بحسب كل حال . أما ما استولي عليه هو وأولاده وزوجه من أموال فيجب رده قولاً واحداً ، ويسري هذا على غيرهم من وزرائه ومستشاريه ، فنحن أمام ثورة ، وإعادة بناء ؛ وبلا شك تعتري هذه المحاكمات الجنائية كثير من الشبهات التي تدرأ معها العقوبة في كثير من المواطن ، فقد يثبت أن وزير الداخلية وحده الذي تصّرف بالقتل ، أو غيره من معاونيه ، ولا تثبت العقوبات على جرائم شابها شك أو شيوع ، وفي الفقه الجنائي الإسلامي ينتقل بالعقوبة إلى التعزير ، وهى عقوبات يُقدّرها القاضى بحسب جُرم كل ُمدان آخذاً في الحسبان ظروف جريمته وتتعدّد هذه العقوبات التعزيرية ، فمنها الحبس والضرب واللوم وعلى القاضى أن يختار ما يتلائم مع الشخص المُدان ، فعقاب ذوى المروءات يستلزم عقوبة أخف من العوام ؛ وتحقيقاً للرأى الذى أميل إليه فإن نسبة القتل لمبارك إن لم تكن مباشرة فيجب التعويض في ماله الخاص وهو المعبّر عنه بالدية ، فضلاً عن ضرورة ردّ ما استفاد من أموال أو تكسّبها بدون حق ولو كانت هدية وأسوق في النهاية كلمات من نور نطقها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين أكلوا أموال شعب مصر وتربحوا من خيره ، فهم كالقطة التي أكلت بنيها وما شبعت ، وهو ما رواه أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال اسْتَعْمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلًا من الْأَزْدِ يُقَالُ له بن اللتبية على الصَّدَقَةِ فلما قَدِمَ قال هذا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لي قال فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه أو بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى له أَمْ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئا إلا جاء بِهِ يوم الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على رَقَبَتِهِ إن كان بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شاه تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ بيده حتى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللهم هل بَلَّغْتُ اللهم هل بَلَّغْتُ ثَلَاثًا (البخاري حديث رقم 2457) فهلا أبلغوا مبارك وهو أقرب للموت منه للحياة أن يرد ما أخذ فنحن أحوج لأموالنا. [email protected] [email protected] * أستاذ الشريعة والقانون المشارك جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية بروناي دار السلام