الرواية التي سرَدَها إمام المسجد العمري في درعا، المدينة السورية التي أطلقت شرارة الثورة، للمقابلة التي جرت بين وفد من المدينة والرئيس بشار الأسد، تؤكِّد أن السوريين خسروا رهانهم على النوايا الإصلاحيَّة لبشار، وأن شقيقه ماهر، الدموي الذي يُحكم قبضته على الجيش والأمن والميليشيات، بات المسيطر على المشهد، فالأسد لم يكن يملك سوى إجابة واحدة ردًّا على ما أخبره به الوفد عن حقيقة ما جرى في درعا، وهي "لم يقولوا لي ذلك"، ثم أنهى الأسد اللقاء مخاطبًا الوفد: "كل طلباتكم مجابة"، بحسب رواية الشيخ. هذه الرواية تؤكِّد أن بشار معزول عن شعبه، وأنه لا يختلف عن "مبارك مصر" و"بن علي تونس"، في الاعتماد على التقارير الأمنيَّة التي ترفع إليه، وأنه لا يمتلك أي وسيلة أخرى للتواصل مع النخب والقطاعات المختلفة للشعب، وإذا كان ماهر الأسد، الشقيق الأصغر لبشار، هو الذي يسيطر على أجهزة الأمن والاستخبارات، إضافة لقيادته للحرس الجمهوري، فإن ذلك يعني أن ماهر هو الحاكم الحقيقي للبلاد، وأن التسريبات التي تشير إلى أن بشار يمسك بملف العلاقات الخارجيَّة، في حين يدير ماهر الملف الداخلي، صحيحة تمامًا، لكن هذه القسمة العائليَّة قد تصلح لإدارة "تركة الوالد" وليس في إدارة دولة، فالدول تدير ملفاتها الخارجيَّة استنادًا إلى قوة ومتانة وضعها الداخلي، كما أن ماهر ليس له أي صفة قانونيَّة تخوّل له ذلك. قسمةٌ ظالمة ولعلَّ هذه "القسمة العائلية" تفسر تأخر بشار في الحديث للشعب عقب اندلاع الاحتجاجات، كما أنها تفسر الوعود الفضفاضة التي أطلقها في كلمته، والتي خلت من أي جداول زمنيَّة للتنفيذ أو حتى ملامح واضحة للإصلاح، فعلى ما يبدو أن الأسد لم يكن ملمًّا بتفاصيل الوضع الداخلي، وأن ماهر هو الذي صاغ ملامح الخطاب وحدَّد سقف التنازلات، بل إنه عندما حصلت "سميرة المسالمة" رئيسة صحيفة "تشرين" الحكوميَّة على ضوء أخضر من الرئيس لفتح حوار مع بعض المثقفين المعارضين، لنقل مطالبهم للسلطات، جرى إفساد الحوار، عبر تصعيد عمليات قتل المتظاهرين، وتكليف عصابات مسلَّحة يديرها ماهر بإطلاق النار على عناصر الجيش والأمن وإلصاق ذلك بالمتظاهرين. وعندما فضحت "المسالمة" حقيقة هذه العصابات على قناة "الجزيرة"، متحدثة عن "طرف ثالث" يطلق النار على المتظاهرين والجيش، ومشكِّكة في رواية "العصابات المسلَّحة"، ومحمِّلة أجهزة الأمن مسئوليَّة القبض عليها "إذا كانت موجودة"، جرى إقالتها من منصبها، ولم يكن مفاجئًا أن تتلقَّى قرار الإقالة من أحد قادة أجهزة الأمن، وليس من وزارة الإعلام التي تتبع لها الصحيفة، في إشارة قوية لمن يدير الأمور في سوريا. وعلى غرار ما حدث في مصر وتونس، فإن القمع الأمني لم يؤدِّ إلى توقف الاحتجاجات، بل منحها مزيدًا من القوة والاتساع، وقد شهدت جمعة "الإصرار" (15/4) للمرة الأولى تظاهرات حاشدة في العاصمة دمشق، حيث حاول المتظاهرون الوصول إلى ساحة العباسيين للاعتصام بها، لكن قوات الأمن استخدمت الهراوات وقنابل الغاز لمنع ذلك وتفريق المتظاهرين، وقدَّرت مصادر إعلامية أعداد المتظاهرين في ربوع سوريا في هذا اليوم بأكثر من مليون متظاهر، وهو رقم ضخم للغاية مقارنةً بعدد سكان البلاد وبعدد المتظاهرين في أيام الجمعة الماضية، كذلك كان لافتًا تراجع حدَّة الصدامات بين الأمن والمتظاهرين، ربما لأن القائمين على الأمن استوعبوا- ولو متأخرًا- أن حاجز الخوف قد سقط، وأن القمع يأتي بأثرٍ عكسي، لكن غياب القمع لم يترافقْ معه طرح أي حلٍّ سياسي. فيديوهات مقلقة لكن الأمر اللافت كان تسريب العديد من الفيديوهات التي تحمل مشاهد تنكيل وقمع للمتظاهرين، وفي إحداها يظهر ماهر الأسد وهو يتفقد مبتسمًا جثث العديد من القتلى، الذين لم يعرف إن كان سقطوا في المظاهرات الأخيرة أم أن الفيديو قديم، كذلك يجري تداول فيديو آخر لعملية تنكيل وتعذيب مقزِّز لأحد المعتقلين، وفي فيديو ثالث يجري الاعتداء بشكلٍ وحشي على المعتقلين في قرية البيضا (قرب بانياس)، ويدوس جندي على المعتقلين المكبَّلين والممددين على الأرض، فيما يقوم آخرون بضربهم بشكلٍ وحشي، ويُظهر فيديو رابع جنودًا يرقصون ويغنون "قتلناهم.. قتلناهم" داخل المسجد العمري في درعا عقب اقتحامه وقتل المعتصمين في داخله. والقاسم المشترك في هذه المشاهد أن من سجَّلها هو "الجلاد" وليس "الضحية"، وهو ما يثير تساؤلات عما إذا كان الهدف منها هو إرعاب السوريين، وتحذيرهم من تكرار سيناريو حماة عام 1982، عندما هدمت وحداتٌ من الجيش وميليشيا البعث يقودها رفعت الأسد، عم بشار، المدينة على رءوس أهلها وقتلت عشرات الآلاف منهم، وإن كان الكثيرون يستبعدون ذلك، فالعالم اختلف، وبات ما يحدث في أقصى بقعة من الأرض يُنقل في ثوانٍ إلى باقي العالم، كذلك فإن الإفراط في التقتيل والقمع يهدِّد بحدوث انقسام في صفوف الجيش، وبالفعل هناك رواياتٌ تشير إلى قيام أجهزة الأمن، التي يسيطر عليها العلويون، بإطلاق النار على جنود في الجيش رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين. انقسام متوقَّع ومن المعروف أن ضباطًا علويين يسيطرون على المناصب العليا في الجيش السوري، كما أنهم يشكِّلون السواد الأعظم من الوحدات القتاليَّة الأكثر كفاءةً وتسليحًا، مثل القوات الخاصة والمظليين والحرس الجمهوري، إضافة إلى أجهزة المخابرات والأمن السياسي، فضلا عن ميليشيات غير نظاميَّة تسمى "الشبيحة"، وأخرى تابعة لحزب البعث، وفي المقابل فإن السنة، الذين يشكِّلون نحو 90% من السكان، يشكِّلون السواد الأعظم من الجنود والضباط ذوي الرتب الصغيرة والمتوسطة، وإذا كانت هذه التركيبة تجعل من حدوث انقلابٍ عسكري أمرًا شبه مستحيل، فإنها تُنذر في نفس الوقت بإمكانية حدوث انشقاق أو تمرُّد إذا وصل القمع لحد غير مقبول أو انغمست مليشيات النظام في قتل المتظاهرين العُزَّل. ورغم أن هذه التركيبة الطائفيَّة المعقَّدة والقابلة للانفجار في أي لحظة، كانت توجب على النظام أن يكون أكثر حذرًا وأن يبادر لتهدئة غضب المتظاهرين وتلبية مطالبهم، خاصةً أنها لم تصلْ للسقف الذي يهدد تلك التركيبة، إلا أنه على العكس من ذلك لجأ إلى سياسة: "أنا أو الفوضى"، وهي نفس السياسة التي اتبعها القذافي في ليبيا، وعبَّر عنها نجله سيف الإسلام، الذي هدَّد الليبيين بحرب أهليَّة تأكل الأخضر واليابس إذا لم يخضعوا لحكم والده، وعلى ما يبدو أن ماهر الأسد يكرِّر نفس السيناريو، فهو يُراهن على أن النظام السوري برغم تأييده للمقاومة الفلسطينيَّة وتحالفه مع إيران، إلا أنه وفَّر هدوءًا تامًّا على جبهة الجولان مع إسرائيل، كما أنه يملك مفتاح السلم والحرب في لبنان، ويؤثر بشكلٍ كبير على معادلة الاستقرار في العراق، وهذه أمورٌ لن يفرِّط فيها الغرب بسهولة، خاصةً إذا كان البديل هو الفوضى أو حرب أهليَّة في سوريا. معادلة عتيقة وأزمة هذا الرهان تكمن في أنه يتبنَّى معادلة عتيقة، مفادها أن مفتاح التغيير في الدول العربيَّة بيد الخارج، والغرب تحديدًا، لكن هذه المعادلة فشلت في مصر وتونس، حيث وقف الغرب متفرجًا ومذهولا مما يحدث، فالتغيير أصبح في يد الشعوب، كما أن رهان القذافي على نفس المعادلة ثبت فشلُه، فرغم أنه كان "كنزًا استراتيجيًّا" للغرب، وأوروبا تحديدًا، وبشكلٍ لا يقل أهمية عن النظام السوري، إلا أن الصور المرعبة لعمليات قتل المتظاهرين العُزَّل، جعلت من الصعب على أي حكومة غربيَّة أن تبرِّر لشعبها الوقوف بجانبه أو حتى الصمت على مذابحه، مهما كان حجم الفوائد التي تجنيها من ورائها، بل إن حكومة أردوغان التركيَّة اضطرَّت للتضحية باستثمارات تتجاوز 10 مليارات دولار مع نظام القذافي، وتراجعت عن موقفها الليِّن تجاهه، عقب تصاعد الانتقادات الموجَّهة لها داخليًّا وخارجيًّا. ورغم الطبيعة الطائفيَّة للنظام الأمني في سوريا، إلا أنه لم يكن كذلك على الصعيد السياسي، بل كان براجماتيًّا بحتًا، وتحالفه مع حزب الله اللبناني وإيران يندرج في إطار هذه البراجماتيَّة، التي جعلته كذلك يتحالف مع حركة "حماس"، إحدى أذرع جماعة الإخوان المسلمين، مع أن الفرع السوري محظور وعقوبة الانتماء إليه هي الإعدام، إلا أن كل ذلك سوف يتبدَّد إذا ما استمرَّ قمع الاحتجاجات، وسوف يحصر النظام نفسه في زاوية طائفيَّة ضيِّقة، وبالفعل فقد بدأت تقارير أمريكيَّة تتحدث عن تلقي دمشق مساعدات إيرانيَّة للسيطرة على الاحتجاجات، وتتحدث تقارير أخرى عن مشاركة عناصر من حزب الله في ذلك، وللإنصاف فإن هذه التقارير أقرب للتلفيق والوقيعة، لأن الأداة القمعية للنظام السوري ليست بحاجة لمثل هذه المساعدة، بل إنها ربما تكون أكفأ من الإيرانيين في هذا المجال. ولعل النظام السوري في هذه الأيام أحوج ما يكون للإنصات إلى النصائح المخلصة، التي تدعوه لتسريع وتيرة الإصلاح، وتراهن على أن رصيد بشار الأسد عند السوريين لم ينفدْ بعد، وإن كان قارب على ذلك، وتعد تركيا، الحليف المقرَّب من بشار والجار اللصيق لسوريا، من هؤلاء الذين يحتاج بشار لنصائحهم، خاصة أن تركيا صاحبة مصلحة مباشرة في استقرار سوريا، ليس بسبب الجوار الجغرافي أو التحالف القوي، بل لأنها تضمُّ أكبر تواجد للعلويين في العالم، حيث يتجاوزُ عدد العلويين الأتراك نحو 15 مليون نسمة، وإذا ما اشتعل صراع طائفي بين السنة والعلويين في سوريا، فإن تركيا ذات الغالبيَّة السنيَّة، لن تكون بمنأى عنه، كما هو الحال للعلويين في لبنان. المصدر: الاسلام اليوم