لكل شعيرة من شعائر الإسلام -صغرت أم كبرت- بُعدان: بعد فردي وبعد حضاري، ومن أهم التحديات التي تواجهها الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة تنمية البعدين بالتوازي، فلا يهتم الدعاة والمصلحون بالبعد الفردي على حساب البعد الحضاري ولا العكس، بل ربما توجّب في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة التركيز على البعد الحضاري نظرًا لأهميته في استعادة الريادة الإسلامية للعالم. وبالتأمل في تاريخ الحضارات –لاسيما الإسلامية- نجد أن البعد الفردي هو الذي صنع وكرَّس للبعد الحضاري، فكلما عظم الاهتمام بالفرد وتنمية قدراته وتوسيع أفقه الثقافي والعلمي كان ذلك ممهدًا للبناء الحضاري والجو المعرفي العام، ونستطيع أن نلمح بسهولة مدى اتساع الأفق الإسلامي في عصور النهضة حينما نعلم أن رجل الشارع العادي في الأندلس بعد الفتح الإسلامي كان يحفظ القرآن كاملاً ويمكنه القراءة والكتابة ونظم الشعر، يقول المؤرخ "جوستاف لوبون": "لو أن العرب استولوا على فرنسا، إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزًا للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحيانًا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم". والتحدي الذي يواجهه الإسلاميون في مرحلة البناء النهضوي الحالي هو حالة خطيرة جدًّا من تسطيح الدين وجعله مجرد شعارات وممارسات ظاهرية، نعم ربما كان السمت الظاهر والعبادات الظاهرية على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أنها جزء من الدين وليست كله، فجوهر الدين مفقود لدى الكثيرين، حتى بين بعض العاملين للدين أنفسهم، فالبعد الفردي ينبغي أن يكون ممهدًا للبعد الحضاري ودافعًا له، ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك، حيث أصبح البعد الفردي لدى الكثيرين معطلاً للبعد الحضاري وقاتلاً له، ووُجِدَ من المسلمين منفِّرون عن الدين والالتزام به، سواء في معاملاتهم أو في أخلاقهم، هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى الدول فيكفي أن نتوجه بالنظر إلى أية دولة إسلامية حتى نكره الإسلام الذي يدين به هؤلاء القوم الظالمون، الأجلاف، آكلو الحقوق، غلاظ الأكباد، المتخلفون علميًّا وتقنيًّا... إلى آخر هذه الأوصاف. إن التركيز على الجانب الأخلاقي للعبادات -والذي كان باعثًا مؤثرًا في إرسال خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام إلى العالم أجمع- لهو من الأهمية بمكان، فكل عبادة وشعيرة إسلامية تنمي جانبًا كبيرًا من الجوانب الأخلاقية في النفس، تعلو به الروح فوق الكيانات الأرضية الفانية، والتوجهات البشرية الزائلة، فتعلو بقيمة الإنسان حتى تقارب الجوزاء، فيسمو في تعامله، ويسمو في أخلاقه، ويسمو في حضارته، فبهذه الطريقة وحدها تؤتي العبادات أكلها، وتنتج ثمراتها المرجوة التي تدفع المجتمع دفعًا نحو ركب الحضارة وقيادة العالم وتحقيق الأستاذية، وبهذه الطريقة فقط ينبغي على المصلحين أن يعيدوا إنتاج الأخلاق ويجددوا طريقة تسويقها في الأنفس البشرية التي باتت هزيلة معوَّجة -حتى المتدين منها-؛ ذلك أنها تفرق بين ما هو إيماني وما هو أخلاقي، حتى انتعشت قيم الازدواجية الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع، فالعبادات مختلفة ومتنوعة، إلا أنها تقود في النهاية إلى غاية أخلاقية واحدة، رسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فالصلاة والزكاة والصيام والحج –التي هي أعظم عبادات الإسلام- هي مدارج الكمال المطلوب، "وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكي قبله وينقي لبه، ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى". الصحوة والاستثمار في الشباب: ولا تزال الصحوة الإسلامية تعاني من قلة الكوادر في الجوانب الميدانية التي تحتاجها البلاد، نعم قد تكون زاخرة بالمواهب العلمية الشرعية والدعوية التي تنفصل كليًّا أو جزئيًّا عما يشغل العقل الجمعي في بلادنا، ولكنها في حاجة ماسة إلى كوادر سياسية وثقافية وفكرية واقتصادية وحزبية تمحو الأمية العقلية التي لا يزال البعض يعيش في خزائنها، مغلقًا على نفسه بقفل حديدي صدئ، تلك العقليات التي تبعث السياسيين الليبراليين ومن يمكن تسميتهم بالمثقفين العرب على التندر من أبناء الصحوة لسطحية تفكيرهم وقلة زادهم الثقافي والتقني. إن من بين أبناء الصحوة كفاءات مبهرة من الشباب، لم تجد حتى هذه اللحظة من يمد إليها يد العون والمساعدة للظهور وتنمية القدرات الذهنية والعقلية والثقافية، وما وصل إليه هؤلاء الشباب من تحصيل ثقافي وتقني هو محض اجتهادات شخصية، يدفعون ثمنها من جيوبهم الخاصة رغم قلة حيلتهم وهوانهم على الناس، ومع ذلك استطاعوا أن يتميزوا وينشطوا ولكنهم بحاجة إلى المزيد، بحاجة إلى جهد مؤسسي إسلامي ليكونوا واجهة مستقبلية للحركة الإسلامية في مصر والعالم، واجهةً مثقفة تحسن استخدام التقنية لتحقيق أغراضها نصرةً لله ورسوله، واجهةً في المساجد والجامعات، واجهةً بين الناس في المؤسسات الحكومية والشوارع والمناشط السياسية والثقافية المختلفة، واجهةً في الجمعيات الخيرية والأحزاب السياسية. لقد صار هذا الدعم فرضًا كفائيًّا لتحسين صورة الحركات الإسلامية التي شوهتها الأنظمة الفاسدة طوال عقود، والتي حبستهم في مساجدهم ومنتدياتهم فاكتسبوا طابعًا معينًا وسلكوا أسلوبًا معهودًا من التعامل مع بعضهم، قد يكون ذلك الأسلوب مناسبًا لمرحلة قد زالت وانتهت، إلا أن المرحلة الجديدة لتفرض على الجميع أن يعيدوا ترتيب أوراقهم، ويصدِّروا لواجهة المشهد شخصيات جديدة لها مواصفات مختلفة عن مواصفات رجال المرحلة السابقة، فالمرحلة الجديدة ستكون فارقة بمعنى الكلمة، لا مكان فيها لمن يعيش في الماضي، وإنما صاحب الريادة فيها هو من يأخذ من الماضي ليمهد للمستقبل، بل هو صانع المستقبل نفسه، والحركة الإسلامية بما فيها من نبع صافٍ، وأصول ضاربة في جذور التاريخ، وكفاءات مبهرة مبشرة، ووجود قوي في الشارع، هي صاحبة اليد الطولى في ذلك، فعليها أن لا تضيع الفرصة، وتمهد السبيل للشباب، وتعدهم إعدادًا علميًّا وفكريًّا وثقافيًّا شاقًّا، حتى تقطف هذه الثمرة الدانية التي تداعب رأسها وتنادي عليها أن اقطفيني أكن لك للمستقبل ذخرًا.