واجهت الحركة الإسلامية العديد من التحديات الداخلية والخارجية، مما جعلها تخوض العديد من المعارك المتتالية. فهي تواجه حالة التفكك التي تعاني منها الأمة، كما تواجه الغزو الثقافي الذي تتعرض له، وفي نفس الوقت تواجه النخب الحاكمة المستبدة والقوى الغربية الداعمة لها. ولقد أدركت الحركة الإسلامية أنها تواجه نفس المخاطر التي تتعرض لها الأمة، ومن هنا أسست لموقفها الدفاعي عن الأمة، ولكن هذا الموقف الدفاعي أصبح يشغل حيزا كبيرا من مسار الحركة الإسلامية، سواء المتعلق بشأنها الداخلي أو دورها الخارجي. ولأن مسار الحركة الإسلامية شاهد العديد من فترات الصعود وفترات التراجع، والتي شهدت العديد من الهجمات الموجهة للحركة الإسلامية بمختلف فصائلها، لذا أصبحت مرحلة الدفاع عن النفس والدفاع عن الأمة، من المراحل المتكررة في تاريخ الحركة الإسلامية. فكلما استطاع التيار الإسلامي تحقيق انجازات على أرض الواقع، تزايدت الضغوط عليه لدفعه للتراجع. وحالة الدفاع عن النفس تتراوح بين الدفاع عن الأمة، أي عملية تحصين الأمة ضد الغزو الخارجي، كما تشمل عملية الدفاع عن الحركة نفسها، لمنع تفككها أو تراجعها أو تخاذل أعضائها، أو اختراقها. لذا تمثل عملية الدفاع عن النفس، عملية تحصين مزدوج، فهي عملية تحصين للحركة وتحصين للحاضن الاجتماعي المحيط بها، حتى يظل قادرا على مواجهة كل عمليات الغزو والاختراق. الدفاع يأتي أولا بالنظر إلى أي عملية إحياء حضاري، أو تحرر حضاري، سنجد أنها تبدأ بعملية تحصين الوعي والمعرفة، وتنقية الأفكار والمفاهيم، حتى تبني الوعي الحضاري المتكامل، أو النقي نسبيا، والقادر على الصمود في وجه محاولات الهيمنة والغزو الثقافي والحضاري. لذا يمكن القول: أن بداية الحركة الإسلامية بالدفاع عن الأمة وبناء وعيها، يمثل الخط التدريجي الطبيعي لمسار أمة تنهض من تراجعها الحضاري، وتعيد بناء نفسها. وهنا نرى أن الحركة الإسلامية عموما، رأت أن تحصين كوادرها يأتي أولا، حتى تكون الكادر الإسلامي النشط، القادر على مواجهة الأوضاع المحيطة، وتبني الرؤية الحضارية الإسلامية ونشرها بين الناس، دون أن يضعف بسبب الضغوط، ودون أن تختلط عليه الأفكار. ولكن المرحلة الدفاعية وهي مرحلة رئيسة، لابد لها من نهاية موضوعية، حتى تنتقل الحركة إلى مرحلة البناء والمبادرة، ومرحلة الهجوم على الخصوم، أي مرحلة امتلاك زمام المبادرة. ولكن الحركة الإسلامية استغرقت كثيرا في مرحلة الدفاع عن النفس، لأنها واجهت تحديات حدت من دورها، وأعادتها إلى مرحلة البداية من جديد. حدث هذا مع جماعة الإخوان المسلمين، والتي حققت الكثير من مسارها قبل ثورة يوليو، ولكن نظام عبد الناصر، والذي استولى على السلطة بدعم جماعة الإخوان المسلمين، أراد التخلص منهم ومن مشروعهم جملة واحدة، حتى يبنى الدولة العلمانية الحديثة، والتي تلقى قبولا دوليا أو غربيا، وتمثل إعادة إنتاج للتجربة الغربية في التقدم. وبعد مرحلة الستينات، وصل المشروع الإسلامي إلى نقطة الصفر تقريبا، وبدأ يعيد بناء نفسه من جديد في مرحلة السبعينات. عود على بدء وهنا تعود مرحلة الدفاع عن النفس بأشد مما كانت، بل وتتحول إلى موجة غضب مسلح واسعة، تمثل حالة احتجاج واسع على الأوضاع القائمة، بما يجعل مرحلة الدفاع عن النفس تصل إلى أقصى درجات الرفض تجاه الأوضاع القائمة. لذا تعود مرحلة التحصين من جديد، وتعمل الحركة الإسلامية على تحصين نفسها من الداخل، وتحاول تحصين المجتمع، بعد أن ثبت أنه لم يكن متعلقا بالمشروع الإسلامي بالدرجة الكافية قبل الثورة، لذا جذبه المشروع العلماني القومي. وهنا تظهر حركات الدفاع المسلح، وتستمر الحركات السلمية في بناء قدراتها الدفاعية السلمية، والمتمثلة في قوة العقيدة والإيمان، مثل جماعة الإخوان المسلمين. وتدخل الحركة الإسلامية في مراحل متتالية للدفاع عن بنيتها والدفاع عن وعي الأمة، ويتكرر هذا المشهد، ولكن ليس بالشدة التي حدثت في السبعينات، فلم يعد الدفاع عن النفس يؤدي حتما إلى استخدام السلاح، بل أصبح يؤدي إلى التشدد أحيانا والحرص أحيانا أخرى. وبالنسبة للحركات الإصلاحية السلمية، نجد جماعة الإخوان المسلمين تهتم غالبا بتأكيد ثوابتها، حتى تقوي مناعة التنظيم عن أي اختراق، وأيضا تمنع تسرب الأفكار التي ربما تتعارض مع ثوابت الحركة. وفي نفس الوقت، نجد التيارات الإسلامية الأخرى، تميل إلى الحيطة والحذر في العديد من القضايا، حتى تفصل نفسها عن الواقع المشبع بالتغريب والفكر الوافد. ورغم أهمية عملية التحصين في المراحل المختلفة، إلا أن العودة المتكررة لمرحلة الدفاع لرفع القدرة الدفاعية الفكرية والإيمانية للتنظيمات الإسلامية، تجعلها مضطرة إلى العودة إلى الوراء قليلا قبل كل تقدم إلى الأمام. وفي المقابل، نجد أن القوى التي تعادي الحركة الإسلامية، تحاول بالفعل نشر الاضطراب بداخلها، بل وتحاول دفعها إلى التنازل عن ثوابتها، وليس فقط ثوابت الحركة، بل حتى ثوابت الإسلام، لذا تستشعر الحركة الإسلامية المخاطر التي تحيط بها، مما يجعلها تعيد عمليات التقوية الداخلية وترميم أي ثغرات فكرية أو تنظيمية أو إيمانية، حتى تعيد بناء الصف الداخلي. ويلاحظ أن جماعة الإخوان المسلمين، والتي تمر بالعديد من التحديات، تلجأ لعملية الترميم التنظيمي الداخلي، حتى تعيد التماسك الداخلي إلى أفضل وضع له. مما يجعلها توسع من مساحة التماسك الداخلي، وتوسع من مساحة ثوابت الحركة المتفق عليها، حتى تزيد من قدرتها على مواجهة التحديات. ولكن تلك العملية تعرقل عملها أحيانا، وتؤخر إنجازاتها أحيانا أخرى، مما يجعل عملية حصار الجماعة تدفعها إلى الاهتمام بعملية التقوية الداخلية والتماسك الداخلي، وهو ما يعرقلها عن خططها وأنشطتها الأخرى. المأزق الدفاعي إذا نظرنا إلى واقع ما تواجهه جماعة الإخوان المسلمين من تحديات، سنجد أنها مدفوعة للدفاع عن نفسها، حتى تستطيع الاستمرار. ولكن الدفاع عن التنظيم قد يعرقل نشاطه، وبهذا يكون الهجوم على الجماعة قد اثر عليها، حيث عرقل أداء الجماعة، وأثر على أوضاعها الداخلية، مما يدفعها إلى ترميم ما يحدث من تأثيرات داخلية، حتى تستطيع مواصلة دورها ونشاطها. وهنا يكون الدفاع عن الحركة مهما ومكلفا في الوقت نفسه، وتكون الجماعة مدفوعة له، وفي نفس الوقت تستغرق فيه، مما يجعل تأمين التنظيم أحد المهام التي تستغرق من القوت والجهد جزءا غير قليل، وبهذا يكون خصوم الجماعة قد نجحوا في استنزاف قدر من طاقتها. وقيادات الجماعة على الجانب الآخر، تخشى أن تستنزف بالكامل من خلال الاختراقات الخارجية، وترى أن عملية التحصين الداخلي، مهما كان الجهد المبذول فيها، تحمي الجماعة من مخاطر أكبر. ولهذا تدور دائرة الدفاع عن النفس، بقدر ما تتعرض له الحركات الإسلامية من هجوم وتآمر عليها. البقاء في مربع الدفاع سوف تظل عمليات الدفاع مستمرة، ولكن المشكلة أنها تستغرق وقتا بأكثر مما ينبغي، وتستغرق جهدا بأكثر مما ينبغي. فكل حركة تحتاج للوصول إلى مرحلة الاستقرار الداخلي، حتى تتفرغ لعملية بناء مشروعها. ولكن وضع الحركة تحت دائرة الضغط المستمر، يهدف إلى عرقلتها، وعندما تحاول حماية نفسها، تؤخر خطواتها نسبيا. وبالنسبة للتيارات الإسلامية الأكثر محافظة في مواقفها وأفكارها، فأنها تجد نفسها في مرحلة الدفاع عن الذات الحضارية للأمة، وهي مرحلة مهمة، ولكن الخروج منها لمرحلة البناء مهم أيضا. ولكن تلك التيارات تجد نفسها محاصرة بفيض من الضغوط التي تتعرض لها الأمة، وتعرقل قدرة الأمة على استعادة هويتها. لذا تبقى بعض الحركات الإسلامية في مرحلة تحصين المجتمع ويتأخر خروجها منها. والحاصل أن الحركات الإسلامية، تتعرض لمواقف تدفعها للاستغراق في الدفاع عن نفسها وعن الأمة، حتى تحافظ على ما تم بناءه، مما يعرقل مرحلة البناء الإيجابي، والخروج من مرحلة الدفاع عن النفس، والدخول في مرحلة الإصلاح والتغيير، حتى تبني مشروعها. صحيح أن التيار الإسلامي عموما استطاع الحفاظ على بقاءه، واستطاعت جماعة الإخوان المسلمين الاستمرار رغم ما واجهته، ولكن الحصار المستمر يؤخر مرحلة تحقيق الأهداف النهائية. فيبقى التحدي الرئيس أمام التيار الإسلامي، يتمثل في قدرته على تجاوز مرحلة الدفاع عن النفس، حتى لا يؤدي حصاره إلى عرقلته طويلا.