لا يمكن دراسة الظاهرة الإسلامية، دون دراسة الحضارة الإسلامية، ومعرفة قيمها المركزية وأسسها ومبادئها وملامحها الخاصة، وركائزها المحورية، والتي تميزها عن غيرها من الحضارات، ومعرفة ما هي الأسس التي لا تقوم بدونها الحضارة الإسلامية، والرؤية الإسلامية. وهذا ما يدفع للبحث حول الثابت والمتغير، والبحث في الفروق بين الرؤية المركزية والرؤى المتشددة وتلك المرنة. وهي مسألة ليست سهلة على الباحث، فما بالك إن كان قبطيا. والباحث ليس مفتيا أو عالم دين، وإن كان يحق له أن يكون، أما إذا كان الباحث قبطيا، فلن يكون إلا باحثا. والباحث الاجتماعي عندما يدرس حضارة، فهو يدرس الجانب المتحقق تاريخيا وواقعيا. فالحضارة تتحقق داخل جماعة بشرية، وقيمها وأفكارها المركزية تتحقق أيضا داخل الوعي الجمعي لتلك الحضارة البشرية. وفي كل الأحوال، فإن الحضارة بوصفها قيما ومبادئ وأحكام، توجد في الوعي الجمعي للشعب أو الأمة التي تحمل هذه الحضارة. وعندما يدرس الباحث الحضارة الإسلامية، فهو يدرس بنية تلك الحضارة المتحققة تاريخيا، والمستمرة في الوعي الجمعي للأمة، وفي الرؤى التي تحملها الحركات التي تحمل رسالة تلك الحضارة. ومن خلال تلك الدراسة، يتوصل الباحث إلى أسس الحضارة الإسلامية، وقيمها ومبادئها وأحكامها كما أمنت بها الأمة وحققتها، وكما توجد في الوعي الجمعي لها، والذي يحرك سلوكها ومعارفها واختياراتها. وهو مدخل يختلف عن مدخل الفقيه أو عالم الدين، والذي يستمد أسس المشروع والرؤية الإسلامية من النص المقدس. ومن الضروري للباحث التوصل في النهاية إلى الخصائص المركزية التي تميز الحضارة الإسلامية عن غيرها، وبالتالي التي تميز التصور السياسي الإسلامي عن غيره. ومن هنا تتبلور الركائز التطبيقية الأساسية للمشروع الإسلامي. ثم تتضح فكرة النظام السياسي، ودور الدولة في المرجعية الإسلامية. وهو ما يفتح بابا مهما أمام الباحث، حيث يستطيع بعد ذلك معرفة المآل الذي يمكن أن يصل له المشروع الإسلامي في التطبيق، ثم يمكنه معرفة مآل التفاعل بين التيارات المختلفة داخل تيار الصحوة الإسلامية، والتي تحمل تصورات متباينة. وهو ما يسمح بمعرفة مسار حالة التفاعل داخل التيار الإسلامي، وتأثير ذلك على قدرته على تحقيق مشروعه، والكيفية والصورة التي يمكن أن يحقق بها مشروعه. ومن لوازم البحث في التصورات الاجتماعية والسياسية الإسلامية، أن يحدد الباحث الأفكار الرئيسة الممثلة لما هو سائد في التيار الإسلامي. ومن تلك الأفكار يتم معرفة التيار السائد والغالب، داخل التيار الإسلامي. ولتحديد التيار السائد أهمية خاصة، حيث أنه يتيح تحديد مقياس للتصنيف بين التيارات الإسلامية المختلفة، لتحديد أي تيار منها يقع في الموضع المتوسط على المقياس، وأي تيار منها يمثل الأغلبية، أو يمكن أن يكون تيارا سائدا، مما يجعله في موضع متوسط على المقياس، وبما يسمح بمعرفة موضع التيارات الأخرى على هذا المقياس. وهو ما يتيح تصنيف روافد التيار الإسلامي، ومعرفة تطورات اتجاهاته المختلفة، وتحولاته المستقبلية. ومن هنا يدرك الباحث التيار السائد في الحضارة الإسلامية، والمعبر عن جوهرها، والممثل لما تم التوافق عليه عبر التاريخ، وبين أغلبية الأمة. فيستطيع الباحث رسم صورة التيار السائد داخل المنظومة الإسلامية، ومعرفة الأسس التي شكلت القيم والمبادئ والأحكام المركزية لهذه المنظومة. وبهذا يتمكن الباحث من تصنيف التيارات الإسلامية، ليحدد التيارات التي تقع في الوسط وتلك التي تقع في يمين الوسط، ويفترض أنها التيارات الأكثر منه تشددا أو التزاما أو تقليدية، ويحدد بالتالي التيارات التي تقع على يسار تيار الوسط، والتي يفترض أنها أكثر مرونة أو توفيقية أو تحديثا. ولكن المشكلة التي تواجه الباحث في كيفية تسمية تلك التيارات، دون أن تعتبر التسمية موقفا سياسيا أو دينيا، أو تعتبر موقفا يؤيد تيار على حساب تيار آخر. وفي اللغة العلمية مثلا، تستخدم كلمة التطرف لوصف التيارات الأقل انتشارا والتي تمثل الأقلية، ولا تمثل التيار السائد أو الغالب، ولكن تعبير التطرف أصبح محملا بدلائل سياسية ودينية. وبالنسبة للباحث، فهو يرصد تيار الوسط أو التيار الغالب من خلال الواقع، فإذا تحول الواقع وأصبح أكثر التيارات تشددا أو تطرفا والذي كان يمثل الأقلية، أصبح يمثل الأغلبية، فعلى الباحث أن يعتبره تيار الوسط بالمعنى الإحصائي والعلمي. لذا فالباحث مقيد بالواقع الذي يدرسه، في حين أن الفقيه أو عالم الدين مقيد بالنص المقدس الذي يدرسه ويفسره، ويقدم فيه اجتهاده الخاص. لذلك يجد الباحث مشكلة في تصنيف التيارات الإسلامية، ويجد مشكلة أكبر في تحديد بعدها أو قربها عن التيار السائد في الحضارة الإسلامية. فليس كل فكرة أو رؤية تمثل بنية الحضارة الإسلامية بنفس الدرجة، فبعض الرؤى تبتعد عن القيم المركزية للحضارة الإسلامية، وبالتالي لا يمكن النظر لها بوصفها تعبيرا عن الحقيقة التاريخية لتلك الحضارة، لأنها تختلف مع الملامح المركزية الأساسية لتلك الحضارة. وفي نفس الوقت، فإن الباحث المتابع لمسيرة الحضارة الإسلامية، يعرف ثوابت تلك الحضارة كما يعرف متغيراتها. فالثوابت هي تلك القيم والغايات والمبادئ والأحكام، التي مثلت الملمح الرئيس المستمر للحضارة الإسلامية، والثوابت هي السمات المتواصلة المستمرة، وهي القيم العابرة للزمان والمكان. ومن يستطيع تحديد الثوابت المتحققة، يعرف بالتالي المتغيرات. وبالتالي يستطيع الباحث التمييز بين الرؤى المختلفة المطروحة على الساحة الإسلامية، ومعرفة موقعها من الخط الرئيس للحضارة الإسلامية. وعندما يكون الباحث له خبرة تفاعلية مع الحركة الإسلامية، وشارك في المحاولة الأولى والثانية لحزب الوسط، وتفاعل حواريا مع جماعة الإخوان المسلمين، فكيف له أن يضع تصنيفاته للوسط والإخوان. فهنا سوف يعتبر كل ما يقوله داخلا في دائرة المواجهة أو الخلافات السياسية والفكرية بين الإخوان والوسط. وتلك مشكلة يعاني منها الباحث، لأنها تحد من قدرته على التعامل علميا مع الظاهرة، دون أن يكون طرفا في مواجهة سياسية أو تنظيمية. وتصنيفات الباحث ليست حكما سياسيا أو دينيا أو فقهيا، بل هي تصنيفات علمية، تستخدم لتلخيص التنوعات بين التيارات، مما يمكن من دراستها ومعرفة تطورها. فكيف يصنف حزب الوسط والإخوان، بل والتيار السلفي أيضا؟ إن الملاحظة والمشاهدة البحثية، تؤكد على أن حزب الوسط يقع على يسار الإخوان، وأن التيار السلفي يقع على يمين الإخوان، ولكن تسمية وتحديد تلك المواقع ووضع عنوان لها، يجعل الباحث في قلب صراعات، هو ليس طرفا فيها. مما يعني أن الباحث الذي يريد أن يبتعد عن المواجهات السياسية، عليه أن لا يكون باحثا متفاعلا مع الظاهرة. وتلك مشكلة، خاصة مع أهمية الجانب التفاعلي للبحث العلمي، خاصة وأن الباحث لا يحاول مجرد تقديم دراسات علمية، بل يحاول التفاعل مع مشكلة المجتمع، بحثا عن مخرج تستعيد من خلاله الأمة هويتها ومرجعيتها. وخبرة الدراسة العلمية للحضارات، تعرف الباحث طبيعة كل حضارة والاختلافات بين الحضارات، مما يجعله قادرا على تحديد القيم المميزة لكل حضارة، ورصد عمليات التغريب والعلمنة. وتلك قضية مهمة، لأنها تمثل المواجهة الحضارية التي تواجه الأمة. لأن نهضة الأمة مرهونة في تصوري بمدى قدرتها على إحياء خصوصيتها الحضارية، وكلما تعرضت للتغريب أو العلمنة، باتت أقرب للتبعية الحضارية، وفقدت فرص التقدم. وفي كل تجربة تتحقق بعض الأهداف، ويصعب تحقيق بعضها، ولكن التجارب تعلم وتكسب الخبرة. ولكن من الضروري أن تستمر محاولة ردم الفجوة بين المسلم والمسيحي من أبناء الأمة الإسلامية، وتستمر محاولة فهم ورصد واقع الحركة الإسلامية، وفهم طبيعة الحضارة الإسلامية. انتهى..