شاهدها الأهالي تجول في الأرجاء، الفاتنة التي أرّقت لياليهم بغموض سيرتها، وأشعلت نهاراتهم الكسلى بالنميمة. لم تتوقف يوما عن اقتحام عزلات بيوتهم بشعاع عينيها المغناطيسي، ومغازلة رجالها المفرطي الشهوة، والتقرب من نسائها اليائسات من رجال عابسين. عادت الفاتنة قبل أيام، تدق بصخب على أبواب البيوت، وكعادتها لم تكن تنتظر إذنا بالدخول، لم تكن غريبة على قاطني البيوت، مع أنها لم تكن فردا منهم أيضا. تدخل مخادعهم المعتمة الموصدة، دون أن يلحظوا سرعتها الخاطفة، في غمرة الارتباك، وتباغت نارهم المشتعلة في المطابخ، لتصب في زيتهم نارا، مخبأة تحت أكمامها، تمزجها بنظرات ودود، مثل أم تستعجل إعداد الطعام لأبنائها الجياع، وتنتقي من الأطفال أصغرهم، لتحكي له حكاية الجميلة النائمة، في أحضان الوحش الرحيم. كانت تخطف قلوبهم بفتنة حنوها، حتى يظن القاطنون، أنهم الأثيرون لديها من بين الناس جميعا. يعرفها أهل المدينة منذ زمن لم يعودوا يذكرونه، حتى أنه يصعب عليهم تحديد علاقتهم بها، البعض يروي حكاية زواجها بجده الأول، بعد أن دوخته بنظراتها الساهمة، وذبح قطعانا من الماشية على عتبة بيتها، ليستأثر بمفاتيح فتنتها، وثمة أخبار تؤكد أنها جارة سوء عتيقة، مني بها أول الساكنين، لكن أغرب الحكايات كانت عن انبثاقها من الأرض، في زلزال شق المدينة نصفين. لم تتحدث يوما عن نفسها، وتسبل عينيها بتواضع كلما سمعت وصفها بفاتنة المدينة، ولم تكن تحب الظهور الإعلامي، وإن اضطرت لذلك، إنما لنفي ما يشاع أحيانا من أخبار تمس سمعتها، كما أن لديها جيشا من المريدين، يتحدثون عن مباهج فتنتها، ويستفيضون في ذكر فضائلها، وهم أشد حرصا على حمايتها من الفضوليين والحاقدين. أما إذا ما أحيطت بالمدائح، فقد كانت تصمت برهة ثم تنظر إلى مريديها، فيرفعون رؤوسهم للسماء حامدين نعمة وجودها، لخيرهم وخير المدينة. ما من أحد منهم أمكنه الاستدلال على موطنها بدقة، ولم يفلح أحد في سرد رواية محكمة عن جذورها، والكل كان ينكر أي علاقة مباشرة بها، سيما وأنها لم تكن تستقر في بيت، ولا يُعرف شيء عن مصدر عيشها المترف، ربما كانت رهبة الاقتراب من تخوم حياتها، تتعلق باتقاء شرور أشخاص متنفذين، تهامس الناس حول علاقتها الوثيقة بهم، وقدرات خارقة تخص الفاتنة ذاتها، تضعها في مصاف الكائنات الخرافية، وأرجح أن ما ألجم فضولهم لمواصلة البحث، يكمن في سيطرتها عليهم بفتنتها الماحقة، وانكشاف أسرارهم الدفينة أمامها، إذ ما كانت تحل أمامهم فجأة بعد غياب مباغت، وما تكاد رائحتها تلفح أجسادهم اللاهثة، حتى تطلق ضحكتها الصاخبة، لمرآهم وهم يتعرون قطعة قطعة، يفتحون صدورهم بأيديهم، ثم يقتربون منها حاملين قلوبهم بأكفهم، بينما ضحكتها تعلو وتهز الأرض تحتهم، وهي ترى ما يخرج من تلك القلوب من ديدان ودمامل وصديد وحبال طويلة من الأكاذيب. لم تكن تلك الفاتنة كأي فاتنة، لها كهنة وسموها بالقداسة وأحاطوها بالغلالات والحجب، يعتنون بها ويقيمون لها الطقوس. يا لها من فاتنة أدركت قدسيتها، فأصابها التجبر والنهم. مثل طاغية ضجر، ينتاب الفاتنة فزع الوحدة، كلما عبرت مدينة ورأت وردا يكلل هامتها، أو نهرا ينبثق من عطشها، فلا يقر لها قرار حتى تملأ السماء بالتهتك والمجون، تغشى البيوت بيتا بيتا، بصرخات الاستنجاد والبكاء تارة، وبالهمس الراجف والنظرات المتكسرة تارة أخرى، ويهرع لها المريدون بكأس دموي، وهم على سلالم النوم، لتمنحهم نظرة رضى، يهدئون بها خفق قلوبهم المثقوبة. يقطعون شرايينهم ليملأوا كوبها الهائل، ولا تهدأ الفاتنة، ويطيب لها شرب المزيد، تتجهم السماء بالرعد والبرق، ويأتي المطر فيضانا يضاعف من بكاء الباكين، على دمهم المهدور ذات وساوس قهرية ورعب، دمهم المسفوح ذات إغواء مخاتل. بعد إعياء وذات خراب أهلك المدينة كلها، يهبطون سلالم نومهم، وأياديهم قابضة على الكوب فارغا، ودمهم مدلوق على الأرض السبخية. رحلت الفاتنة، اختفت كعادتها، بعد أن تركت أسنانا لها، ناشبة في لحم الأرض الحمراء، وكم راعهم أن يكون لفاتنة لؤلؤية المبسم، أسنان الضباع. كانت الفاتنة كلما أذنت مواسمها، تجالس عموم أهل المدينة، لتقرأ عليهم ما حفظته من الكتب المقدسة، تؤولها وتفسرها لهم، وهم في حيرة ودهشة، مأخوذين بخشوع صوتها الرخيم، يتمايلون نشوة وحماسة، وهم يكتشفون إيمانا جديدا لم يألفوه. تترك في أيديهم رهبتها، وتروي لهم القصص عن مظالم سلالتها، محدقة في طيبتهم ووجعهم، وتسكب سرا في أذن كل منهم، تملحه بدمعة حارقة. يمنحونها الأرغفة الخمسة التي ابتاعوها لطعامهم الوحيد، وتنزوي بعيدة عنهم باكية، وينفض جمعهم غاضبين متفرقين. وللفاتنة حظوة عند رجال السياسة والتجار، عابرة الأزمان والجغرافيا والبشر، تسكرهم فتنة تحولاتها، ومواهبها العديدة، فهي تجيد أداء أنواع الرقص الكلاسيكي والحديث، ترقص لهم حتى يسيل لعابهم وعيونهم تتبع التواءات الجسد الفاتن، وتتكلم بلغات ولهجات متنوعة، بإتقان يثير إعجاب الساسة، ويشعل مخيلة التجار، وتشاركهم مرح التزحلق على الماء والرمال، والعقول والأكتاف والظهور. ولا تغادرهم حتى تقدم لهم التعاويذ والترانيم، ويتوجونها بالرصاص والأموال. تخرج الفاتنة ممزقة أوصال المدينة بإنشادها مزامير النصر للصفقات، وبينما تقرع أبواب المدينة تقرأ تعاليم أسلافها، تنفخ فيها من روحها المسنونة بالمعدن، وتبدأ غناءها الأثيم، فتنسل ألف فاتنة وفاتنة، يداهمن الليالي الساكنات، ويقلبن اتجاهات القلوب. وبعد أن تنهي مهماتها، تقف الفاتنة في نهاية الشارع، لتراقب بعينين ثعلبيتين، دخان الحريق المنطلق من بيت قيد الترميم، كان آيلا للسقوط. نسيت القول أن أهل المدينة اختلفوا أيضا إن كانت الفاتنة تنام مثلهم أم أنها لا تعرف النوم، ولعلهم أدركوا متأخرين أنها كانت تتظاهر بالنوم، وليت الفاتنة تنام هذه الأيام رحاب ابو هشير القدس العربي