باختصار ما يجري في مصر بعد ثورة 25 يناير هو تقريبا نفس ما حدث في اندونيسيا عقب ثورة 12 مايو، فتاريخ الاستبداد في البلدين متشابه الى حد كبير، والثورة التي اطاحت بسوهارتو عام 1998 شبيهة بالتي اطاحت بمبارك عام 2011، وما يجرى عندنا الآن هو نسخة طبق الاصل مما جرى هناك قبل 13 عاما! في 12مايو 1998 اندلعت الثورة في إندونيسيا ضد الرئيس سوهارتو بعد ثلاثين عاما من الاستبداد، خرج الملايين الى الشوارع يطالبون باستقالة الرئيس احتجاجا على الازمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، استمرت المواجهات الدامية بين الشرطة والشعب عشرة ايام قتل واصيب خلالها آلاف الاشخاص ثم تقرر نزول الجيش الى الشوارع وفي 21 مايو 1998 خرج الرئيس الاندونيسي على شاشة التليفزيون معلنا استقالته. وفي 25 يناير 2011 اندلعت ثورة مماثلة في مصر ضد مبارك بعد ثلاثين عاما من الحكم الشمولي، خرج ملايين المصريين الى الشوارع يطالبون بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية واسقاط النظام، استمرت المواجهات دامية بين الشرطة والبلطجية وبين الشعب 18 يوما سقط خلالها مئات القتلي والجرحي ثم تقرر نزول الجيش الى الشوارع وفي 11 فبراير 2011 قرر الرئيس المصري التنحي أو أجبر على ذلك بواسطة الجيش، وتولى نائبه عمر سليمان مهمة الاعلان عن ذلك علي شاشة التليفزيون! قاد الشباب الثورة في البلدين ثم انضمت اليهم جموع الشعب احتجاجا علي القمع والفساد، وفي الثورتين كان موقف الجيش مشرفا، فقد انحاز بوضوح لمطالب الثوار المشروعة، ولم يعبأ بما قدم له من اغراءات او تهديدات، سواء من حزب (جولكار) الحاكم في جاكرتا او الحزب الوطني الديمقراطي في القاهرة، وكان انحياز الجيش للشعب هو العنصر الحاسم في نجاح الثورتين والتعجيل باستقالة الرئيسين! لم يكن سوهارتو ومبارك غير وجهين لعملة واحدة، فالاول استولى على السلطة عام 1965 بعد انقلاب عسكري على الرئيس سوكارنو، والثاني استلم السلطة في عام 1981 بعد اغتيال غامض للرئيس السادات، وهناك اجماع على ان الرجلين وصلا الى الحكم بدعم من الولاياتالمتحدةالامريكية، كانت واشنطن تريد التخلص من سوكارنو ونظامه الشيوعي المعادي للغرب، وايضا التخلص من السادات بعد أن أصبح عبئا على حلفائه في الداخل والخارج! حكم سوهارتو اندونيسيا 32 عاما مستخدما ابشع ادوات القمع والقهر والتعذيب ، وتسبب في مقتل مليون اندونيسي خلال الحملة التي قادها للقضاء على الشيوعية، لكنه حول بلاده إلى نمر آسيوي لا يقل قوة عن كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، أما مبارك فقد حكم مصر 30 عاما بنفس ادوات القمع والقهر والتعذيب بدعوى التصدي للاسلاميين المتطرفين وحماية الاستقرار ومكافحة الارهاب ، لكنه فشل في تحقيق اي نهضة، وحول مصر الى دولة فاشلة تتسول المعونات والمساعدات والقروض من الخارج. لم يكن الرجلان يعتبران السلطة الا وسيلة للاثراء السريع، لذا سيطر سوهارتو واسرته (زوجته وابنائه) في اندونيسيا على صناعات السيارات والكيماويات والاتصالات والفنادق ووسائل الاعلام والسفن والطائرات والبترول والمقاولات ومحطات الكهرباء والمياه وحقق من جراء ذلك ثروة تجاوزت 88 مليار دولار، وهذا هو نفس ما فعله مبارك واسرته (زوجته ونجليه) في مصر مع فارق وحيد انهم استثمروا أموالهم حول العالم مما ضاعف ثروة الاسرة لدرجة انها بلغت وفق تقديرات الواشنطن بوست 700 مليار دولار! وكان من الطبيعي بعد كل هذا القهر والقمع ان تندلع ثورة شعبية في البلدين، لكنها في اندونيسيا اتسمت بالعنف الشديد، وقام المتظاهرون وغالبيتهم من الفقراء والمهمشين بنهب واحراق كل رموز الرفاهية والبذخ كالمولات التجارية والفنادق والبنوك ومعارض السيارات والمنتجعات السياحية ومباني الوزارات والبرلمان، أما في مصر فقد كانت الثورة سلمية الى حد كبير، وحرص المتظاهرون على حماية المال العام والخاص ، لكن حالات نهب محدودة وقعت واتهم بارتكابها فلول النظام السابق. رفض سوهارتو ومبارك باصرار بعد تنحيهما فكرة الاقامة في المنفي، ربما بدافع الكبرياء والعناد او املا في العودة الى الحكم فور تغير الظروف ، فالاول اختار الاقامة مع اسرته متواريا عن الانظار في احدى ضواحي العاصمة جاكرتا، والثاني قرر الاقامة مع اسرته متواريا عن الانظار في منتجع بشرم الشيخ، وكانت اقامة الرجلين في الداخل سببا رئيسيا في استمرار حالة عدم الاستقرار والثورة المضادة! في اندونيسيا لم تتوقف فلول نظام سوهارتو عن محاولاتها لاعادة عقارب الساعة الى الوراء، حاول بحر الدين يوسف حبيبي نائب الرئيس خداع الشعب باصلاحات شكلية ، لكن الاحتجاجات لم تتوقف فتم الاعلان عن مرحلة انتقالية لمدة عام يليها انتخابات برلمانية ورئاسية، وفي مصر حدث نفس الشيء تقريبا، فرموز نظام مبارك واصلوا محاولاتهم للقيام بثورة مضادة، ولعبت رموز في الحكومة السابقة دورا في هذا الاتجاه بالتعاون مع مسئولين سابقين ورجال اعمال، لكن الاحتجاجات الشعبية دفعت المجلس العسكرى لاتخاذ اجراءات أكثر صرامة ازاء رموز النظام السابق. المرحلة الانتقالية في اندونيسيا لم تكن سهلة على الاطلاق، فقد استغرقت اربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، واستمر هذا الوضع حتى بعد انتخاب الرئيس عبد الرحمن وحيد في عام 1999، ولم تعد البلاد الى حالتها الطبيعية الا بعد انتخاب الرئيس الاصلاحي سوسيلو يودهونو في عام 2004، ويبدو ان هذا تقريبا ما سوف يحدث في مصر، التي تعيش الآن حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهناك شعور عام بالقلق نظرا لعدم الاتفاق علي خارطة طريق متفق عليها ازاء المستقبل! في اندونيسيا لم يحاكم الرئيس سوهارتو أبدا على جرائمه في حق الشعب الاندونيسي، بل إنه لم يوضع قيد الاقامة الجبرية الا بعد عامين من الثورة، وفشلت كل محاولات تقديمه للعدالة بحجة ان حالته الصحية لا تسمح ، واستمر هذا الوضع عشر سنوات حتى توفي في 27 يناير 2008، لكن الوضع في مصر يبدو مختلفا بعض الشيء، فمبارك وضع قيد الاقامة الجبرية فور تنحيه عن منصبه، والنائب العام قرر استدعائه ونجليه للتحقيق بعد شهرين من تنحيه عن منصبه، وليس مستبعدا ان تتم محاكمة الرئيس السابق و نجليه لإعادة الهدوء والاستقرار الى البلاد. التشابه واضح بين التجربتين الاندونيسية والمصرية، والأمل ان تكون النهاية واحدة، فإندونيسيا الآن أفضل كثيرا سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا كما تحسن سجلها الى حد كبير في مجال حقوق الانسان!