مواقف كثيرة يمر بها الإنسان وقد لا يعيرها اهتمامًا، ثم يفاجأ بها بعد سنوات عديدة تقفز إلى مقدمة الذاكرة، وذلك عندما يحدث ما يستدعيها.. لقد استدعى خبر قرأته إلى ذاكرتي حدثًا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي حيث كنت أنعم بالعيش في القرية، ولم يكن في ذلك الزمن من بين أهل القرية من يمتلك عباءة إلا بعض الأشياخ ذوي الهيئة والوجاهة، إمّا حسبًا ونسبًا أو شرفًا ومكانة اجتماعية ووقارًا يليق بالعباءة.. ثم كان أن انطلق العديد من الشباب خاصة من أبناء البسطاء إلى العراق بحثًا عن المال.. وعاد أحدهم -وكان من أرازل القوم- وقد جلب معه عباءة لا تقل عن عباءة الحاج فلان، ومشى بها مزهوًّا في شوارع القرية.. وما إن شاهده الحاج فلان إلا وتملكه الحزن والأسى على مكانة العباءة ومنزلتها، وذلك الابتذال الذي تردَّت إليه.. فطلب من أحد أبنائه استدعاء متخصص القرية في صناعة برادع الحمير، وطلب منه أن يحوِّل عباءته إلى بردعة لحماره أمام عينيه حتى ترتاح نفسه؛ فقد أصبحت لا تليق به ولا يليق بها. هذا ما حدث بالفعل، وقد كنت أدرك حينها أن الشيخ فلانًا لم يفعل ذلك احتقارًا لذلك الشاب؛ وإنما غيرة على ما ينبغي أن تضفيه العباءة من دلالات الوقار والحكمة حتى لا تختلط الأمور فتهتز أركان المجتمع ويتعرض السلم المجتمعي لأية خروقات. ولو اشترى ذلك الشاب (سويتر) فخمًا أغلى من العباءة.. أو حتى سيارة حديثة لكان مقبولًا.. أما العباءة فعيب كبير. تذكرت هذا الحدث عندما قرأت ما انتشر من منح لقب (الأم المثالية) لسيدة تعمل في المجال الفني وقد حققت نجومية في الرقص البلدي، وقد أثار ذلك انتقادات واسعة.. وأنا لا أشكك مطلقًا في استحقاق تلك السيدة للقب الأم المثالية؛ فقد تكون حققت فيما يخص الأمومة ما يجعلها جديرة باللقب؛ من حسن تربية ورعاية وتعليم وغير ذلك.. وإنما الذي يثير الدهشة والانتقاد أنه كان يمكن تكريمها في مجالات عديدة تتناسب مع عملها كفنانة، فلديها الكثير من الإنجازات فضلًا عن أن تكون أمًّا ناجحة.. والإبقاء على ما يوحيه لقب الأم المثالية لهؤلاء الأمهات اللائي يعانين من أزمات مالية في حياتهن، ورغم ذلك يعملن أعمالًا شاقة ويصبرن ويحتملن صعوبة الحياة ثم يقدمن للمجتمع –رغم تلك الظروف- أبناء ناجحين، وليس لهؤلاء السيدات أية صفة غالبًا بجانب أنهن أمهات، ولم يحققن أي نجاح سوى في مجال الأمومة، فيأتي اللقب تكريمًا لهن بعد معاناة، وتشجيعًا لغيرهن على عدم الاستسلام لصعوبات الحياة.. أمَّا أن يتم منح اللقب خارج هذا الإطار فقد أفقدناه كثيرًا من إيحاءاته وقيمته، وهذا ليس قدحًا في الفنانة التي نالته، وإنما من باب ضرورة وضع الأمور في نصابها، حتى نحافظ على بدهيات وقيم وثوابت مجتمعنا المصري. أعتقد أن جميع المصريين كانوا قبل هذا الخبر يرجون لأمهاتهم أن ينلن لقب (الأم المثالية).. ولم يكن أحد منهم مختلفًا على ذلك.. ولكن بعد اليوم، تُرى كم مصريًّا أصبح يرجوه لأمِّهِ؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.