الثورة تعنى الخروج عن الوضع القائم، بإحداث تغيير كامل فى كل شىء، ولها تعريفات أخرى، ففى التعريف التقليدي القديم الذي وضع مع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، أنها قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة، أما التعريف أو الفهم المعاصر والأكثر حداثةً للثورة يقول بأنها التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته "كالقوات المسلحة"، أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته، لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات، ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية. والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة هو الانقضاض ضد الحكم الظالم، وقد تكون الثورة شعبية مثل الثورة الفرنسية عام 1789، وثورات أوروبا فى القرن التاسع عشر (أشرت غليها فى مقال يوم 20 يناير الماضى)، ومنها أيضا ثورات أوربا الشرقية ضد النظم الشمولية عام 1989، وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر 2004، أو عسكرية يقوم بها الجيش، مثل تلك التي سادت أمريكا اللاتينية في الخمسينيات الستينيات من القرن العشرين، أو حركة مقاومة ضد مستعمر مثل الثورة الجزائرية (1954-1962). أما الانقلاب العسكري فهو قيام أحد العسكريين بالوثوب على السلطة، من خلال قلب نظام الحكم، بغية الاستئثار بالسلطة والحصول على مكاسب شخصية من كرسي الحكم، وهذا النموذج تواجد بكثرة فى بلدان العالم الثالث، وعدد من الدول العربية، مثل السودان وسوريا واليمن والعراق وموريتانيا. الثورة سلوك نبيل، ينشد التغيير الشامل نحو الأفضل لتحقيق طموحات جموع الشعب، وأعظم الثورات تلك التى تكون بلا قائد، فيكون الشعب كله هو قائدها وهو القائم بها، فتنعدم أية مصالح خاصة أو مجدا شخصيا، ويكون كل الشعب هو البطل. ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، كانت ثورة شعبية، لكنها فريدة من نوعها، وتختلف عن كل الثورات الشعبية فى التاريخ، بالنظر إلى معطيات المناخ السياسى والإجتماعى الذى انطلقت منه، وبالنظر إلى صعوبة الهدف الذى انطلقت من أجله، وهو خلع نظام حكم فاسد طغى وتجبر وترسخت جذوره كالأوتاد، وجثم على أنفاس البلاد ثلاثة عقود كاملة، حجب خلالهم الشمس والهواء عن الشعب، وأذاقهم الجوع والمذلة والهوان، وساقهم للقبور أحياءً ليقضوا حياتهم بها، ورفع عصا الظلم والإرهاب فوق كل من ينبش فاه بكلمة حق، ودفن كل المواهب والكفاءات، ورعى كل فاسد ومفسد، ودافع عن كل لص ومجرم، وضلل من خلال منظومة إعلامه الشعب، ونهب مال الكادحين، واستحل عرقهم، وامتص دماءهم. تمكن الطغاة من البلد بشكل محكم، وكبلوها بقبضة فولاذية، وأحكموا غل الحركة، وتكميم الأفواه، وترويع الشرفاء، والتخلص من كل من يقول كلمة "لا"، وتمترسوا فى مواقعهم، وظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، فزادوا من طغيانهم، وفجروا بأفعالهم، وسخروا من جموع الشعب، حتى جاءت لحظة الإنفجار. وقائع وأحداث ثورة يناير، من المستحيل أن يقدر مبدع على أن يصيغها فى قصيدة أو فى رواية، أو فى فيلم سينمائى، أو فى أى قالب إبداعى، وكذا لايستطيع أى كاتب أن ينقل صورة ذهنية تقاربها، حتى كاميرات التلفزة، التى سجلت أحداثها ثانية بثانية، وكانت تنقلها لكل مناحى الأرض، تعجز عن نقل صورة حقيقية لما كان يحدث بها، لأن الكاميرات كانت تسجل صورًا وأصواتا، لكنها تعجز عن تسجيل ونقل تلك الروح الثورية التى كان يتحلى بها جموع الثوار فى كل مدن وقرى وشوارع مصر، ومن كتب له ألا يكون متواجدا بين الصفوف، لا يمكنه أن يعرف قدر هؤلاء الثوار. لما جاءت لحظة الإنفجار، هبت جموع الشعب من كل صوب وحدب ثائرة على الطغيان، من العشوائيات ومن الأحياء الراقية، من القبور ومن القصور، من المدن والقرى والنجوع، صغارا وكبارا، شبابا وشيوخا، مثقفون وحرفيون، سياسيون ومتعطلون، لا هدف لهم سوى إسقاط النظام الفاسد، كان الهدف أشبه من يريد خلع جبل المقطم من جذوره، فقوبل هدفهم باستهزاء، لكن ألشعب خرج كأمواج بحر هائج، أو كإعصار زلزل أركان النظام ليسقطه خلال أيام قصيرة. كان الجو باردا، وجنود مبارك يطلقون عليهم مدافع المياه وهو يصلون، فلم يتزحزحوا قيد أنملة، وواصلوا صلاتهم، ومدافع المياه البارد تكاد تخرق أجسادهم، وقنابل الغاز تكاد تخنقهم، وسيارات كلاب الأمن تدهسهم، والضربات تنهال عليهم بالعصى المكهربة، ثم انهمر عليهم الرصاص، وتساقط المئات ما بين قتلى ومصابون، وجرت دماؤهم الطاهرة على أرض الميدان، لكن لم تلن عزيمتهم، ولم تتزعزع إرادتهم، وواصلوا التحدى، وكتبوا أروع ملاحم الشجاعة والصمود. عاش الثوار أياما وليال فى العراء على أنصاف بطونهم، يتقاسمون اللقمة وشربة الماء، بمعنويات مرتفعة، وكان الطغاة فى قصورهم المنيفة يقضون سهراتهم حول الشواء، تدور عليهم الكؤوس، يتسامرون ويضحكون من الثوار، موقنين أنها مجرد "تسالى"، وراهنون على إجهادهم وثم انصرافهم ليعتقلوهم بعد ذلك ويدخلوهم غرف جهنم، لكن الغاضبون كانوا يوما بعد يوم يزدادون إصرارا وتحديا، فشكلوا صورة لا مثيل لها فى التاريخ. نصبوا ما يشبه الخيام، من قطع المشمع والخرق البالية لتستر الثائرات من بنات ونساء مصر، وأقاموا إذاعة داخلية على أعلى مستوى لبث الإانى الوطنية الرائعة والأناشيد الحماسية، ونصبوا طبق استقبال للقنوات الفضائية متصل بعدة شاشات نصبت فى أركان الميدان، وقام الأطباء من الثائرين بتجهيز مستشفى ميدانى لعلاج من تطاله رصاصات وحجارة وضربات المجرمين الفجرة، وكان المستشفى كاملا متكاملا، به أجهزة تعقيم حديثة غير متواجدة فى مستشفيات الدولة، وغرفة عمليات رائعة ومعقمة، وثلاجات لحفظ الدم، وجهاز أشعة سونار، وفريق من الشباب والشابات مدرب وعلى أعلى مستوى من الكفاءة، وكان بالميدان أكثر من مولد كهرباء، تحسبا لأن يقوم كلاب النظام بقطع الكهرباء عن الميدان، وكان هناك تنظيما عاليا فى كل شىء، فهناك من يفحص الوافدين ويفتشهم بمنتهى الأدب واللياقة تحسبا لدخول مندسين من كلاب السلطة، وهناك من يقفون على أطراف الميدان فى أوضاع دفاعية "يحرسون الثغور"، جاهزون لصد أى هجوم من كلاب النظام، وهناك عشرات من شواحن الموبايلات من كل الأنواع، متصلة بمصدر كهرباء، لكل من يريد أن يشحن موبايله، وهناك مكانا لتلقى أى شىء مفقود، فيذهب صاحبه ويأخذه، وهناك من يكتبون الشعارات على اللوحات، ومن يوزعون المنشورات، وكانت تصدر نشرة يومية أشبه بصحيفة، وهناك من يقدمون المساعدات لمن يريد، والكل يتسابق للقيام بأى دور فعال من شأنه الإستمرار فى الصمود والتحدى. وكان أجمل ما فى الميدان تلك الدمية المعلقة على سارية مرتفعة، كرمز لمبارك وهو يلبس البدلة الحمراء، ومعلق من رقبته مشنوقا، إلى جانب العديد من المشاهد الطريفة، والتعليقات الرائعة، والبوسترات، التى تعبر عن ما آل اليه البلد من فساد فى عهد الطاغية. كان النظام يقدم تنازلاته للثائرين بالقطعة، ظنا منه أن يستطيع إخماد ثورتهم، لكنهم كانوا عازمين على تحقيق كل مطالبهم حتى ولو كلفهم ذلك مزيدا من الدماء، ذلك أن لحظة إطلاق أول رصاصة من زبانية النظام، وسقوط أول شهيد، وإسالة اول قطرة دماء، كانت هى نفسها اللحظة التى سقط فيها النظام وفقد شرعيته، وتأججت ثورة كل الشعب وأضحت نارا ضد النظام وزبانيته، فرفضوا كل التنازلات المضحكة التى قدمها النظام، وواصلوا صمودهم، حتى تحقق أول هدف فى السادسة من مساء يوم الجمعة الحادى عشر من فبراير 2011، حيث تم خلع رأس النظام، لكن فلوله كانت تسيطر على كل مؤسسات الدولة، فبدأوا حربهم القذرة. شن فلول النظام "حربا قذرة" لإجهاض الثورة، ولا أعرف من أين خرج مصطلح "الثورة المضادة"، فالثورة كما قلت فى صدر هذا المقال هى تصرف نبيل يهدف إلى التغيير للأفضل، لكن ما قام ومازال به فلول النظام كانت حربا قذرة، بدأت بالغياب الأمنى، ثم تسريح السجناء وتسليحهم، ونشر الرعب فى كل مناحى مصر بشكل غير مسبوق فى تاريخها، والتحريض على التظاهرات الفئوية لوقف عجلة الإنتاج، وتدمير اقتصاد الدولة، لكن الثوار واصلوا ثورتهم، وصمموا على خلع وزارة أحمد شفيق، التى كانت تضم كثيرا من رموز العهد الفاسد، خاصة وزير الداخلية محمود وجدى الصديق المقرب للمدعو ذكريا عزمى، واصل الثائرون انتصاراتهم، فتم عزل وزير الإعلام ( الفاسد الذى محا كل ما هو إسلامى من منظمة الإعلام المصرى) وإحالته للنيابة العامة، وهو الذى كان أحمد شفيق يدافع عنه حتى ليلة إحالته للنيابة، ثم تم خلع شفيق نفسه وزمرته التى هى فى الحقيقة زمرة مبارك، وكان بقاءهم يهدد الثورة وما حققته من انتصارات. وكان الإنتصار الاعظم للثورة، يوم أن فطن الثائرون إلى مؤامرة جهاز أمن مبارك، بالتخلص مما لديه من وثائق تدين كل رموزه، فاندفعوا يقتحمون قلاعه المحصنة، ورأى العالم كله مابه من أهوال وفضائح، وسقطت قلاع الشياطين وانهارت حصونهم أمام إرادة الثائرين فى ساعات معدودة، وكان بقاء هذه المؤسسة يشكل أكبر تهديد للثورة، وكان سقوطه يعنى سقوط عهد الظلم والتعذيب، والإعتداء على الحرمات والحريات، وهذا النصر بالذات كان يعنى إعادة مصر للمصريين. سقوط أمن مبارك، كان بمثابة تحرير مصر من مستعمر أجنبى، مستعمر ليس له دين، ولا ضمير، ولا أخلاقيات، كأنهم من سلالة إبليس اللعين، فكانت الورقة الأخيرة والخطيرة التى أخرجها هؤلاء الشياطين، الملف الطائفى، فنشروا رسلهم فى المناطق المتواجد بها تجمعات مسيحية، يشيعون بين الناس أمورا غير حقيقية، فكانوا كمن يسكب نابالم على وجه مصر ليحرقه، لكن كان الشعب أزكى من أن يبتلع هذا الطعم، فرائحته النتنة مميزة، وطعمه المرير يحول دون أن يتذوقه أصغر صبى فى مصر، فعاد الجميع صفا واحدا أقوى مما كانوا عليه، وردوا السهام إلى نحور من رموها. هى حرب قذرة، لكنها استنفذت كل أسلحتها القذرة، ولم يبق سوى محاكمة هؤلاء الذين استقبلت السجون كثيرا منهم، وتنظر من تبقى منهم خارجها، وانتصرت ثورة شعب مصر، وقريبا سنجنى ثمار هذه الثورة العظيمة. [email protected]