لم يعد من اللائق ولا من المعقول بعد الآن أن نسكت على خطابنا الإعلامي بعد ثورة 25 يناير وما تمخضت عنه من إفرازات ومُخْرَجَات إيجابية أثارت دهشة العالم واحترامه، فلابد من الاعتراف أننا عُدنا القهقرى في كثير من الميادين التي كانت لنا الريادة الإقليمية فيها، ومنها الإعلام بكافة صوره ووسائطه. فالتليفزيون المصري الذي أُنشىء في ستينيات القرن الماضي ظلَّ مقصدًا لكل الدول الإقليمية التي أرادت الاستفادة من التجربة الإعلامية الفريدة لمصر، وكانت كوادره الإعلامية موضع ثقة الجميع حتى انتهى عصر (الإعلام الحكومي المُوجَّه) وبدأ غزو الفضائيات الخاصة لسماوات العالم في ظل الثورة المعلوماتية الرهيبة، وما نتج عنها من حرية مطلقة أو نسبية في المحتوى الإعلامي. وبالرغم من تغير الخطاب الإعلامي بعد هذا الغزو الفضائي إلا أن التلفزيون المصري ظلَّ يعمل بعقلية (الموظفين) الذين يؤدون عملًا نمطيًا روتينيًا لا يحترم عقلية المشاهد ولا يعبأ بنبض الشارع ولا بمشكلات المواطنين، وأضحى السقف المسموح به في برامجه أكثر انخفاضًا مما ينبغي، وهو ما أفقد المصريين الثقة في شاشتهم، فاتجهت أنظارهم صوب الفضائيات الأخرى ليطَّلعوا على ما أخفاه الإعلام الحكومي عنهم، حتى ترسَّخ لديهم إحساسٌ عميقٌ بأن الحقيقة قد أصبحت حِكرًا على قنوات بعينها. ولفترة طويلة ظلت الشاشة في التلفزيون المصري حكرًا على أُناس بعينهم، فأكثرهم كان محسوبًا على النظام؛ فضلا عن قلة تدَّعي الاختلاف مع النظام بينما هم في حقيقة الأمر جزء لا يتجزأ من النظام لإضفاء (ديكور الديمقراطية)، وقد رأينا تزاوجًا خبيثًا بين الصحافة القومية والسلطة الإعلامية في ماسبيرو، تمامًا مثل (الزواج الباطل) بين السلطة ورجال الأعمال، وهو ما غيَّب الحيادية والنزاهة عن المحتوى البرامجي. وفي الأيام الثمانية عشر من ثورة 25 يناير، فما أن حمي الوطيس حتى انكشف المستور وظهر قصور الكثيرين من مذيعينا الذين لم يُجيدوا الارتجال في نقل الأحداث المتلاحقة، فأصبح الواحد منهم مجرد ناطق للأسئلة العشوائية التي تأتيه من خلف الكاميرات بلغة ركيكة بعيدة عن الصحة اللغوية والبلاغة، أي على النقيض تمامًا من الفضائيات التي أدارت الأزمة باقتدار إعلامي تُحسد عليه -وإن لم تكن نوايا البعض منها خالصة- وكان لمذيعيها القدرة على رد الانتقادات التي توجه إلى قناتهم والذود عنها بلباقة بلباقة لا نظير لها، وهو ما يؤكد على أنهم اُختيروا بعيدًا عن (الوساطة والمحسوبية) وتلقوا دورات عديدة في فن (إدارة الأزمات). كان التلفزيون المصري في الأيام ال 18 أشبه بجهاز للولولة والعويل والاستغاثات المبالغ فيها، حتى إن أحد الإعلاميين المعروفين ببرامجهم التي تعتمد على دغدغة المشاعر ظلَّ يصرخ لنصف الساعة مدعيًا أن هناك عشرات من حالات الاغتصاب حدثت في منطقته يوم الجمعة (جُمُعة الغضب) - وهو عدد لا يصدقه عاقل- وأصبح همُّ الإعلام المصري ترهيب الناس وإذاعة البيانات المثبطة التي من شأنها أن تجعل من كل مصري بَوَّابًا على عتبة بيته، وتأمُل أن يعود (الثورجية) من ميدان التحرير للقيام بنفس هذه المهمة، لا سيما وقد تخلى الأمن عن وظيفته وترك الوطن نهبًا للبلطجية وأرباب السوابق الذين أُطلقوا من قيودهم!! ولا يمكن لأي منصف أن يتحدث عن تغطية الفضائيات للأزمة الأخيرة دون الإشارة إلى هيئة الإذاعة البريطانية (C.B.B) التي تثبت يومًا بعد يوم جدارتها وتفرَّدها الإعلامي الذي يعتبر نموذجًا يُحتذى به في المهنية والتجرد، وقد بلغ بها الحياد أن وجهت النقد المباشر إلى الحكومة البريطانية نفسها، والأكثر من ذلك أنها قد نقلت مؤخرًا بعض الإضرابات والتظاهرات للعاملين داخل الهيئة نفسها اعتراضًا على بعض سياساتها تجاههم. وهو ما يؤكد لنا أن تحري الحيادية والموضوعية أمر ليس من المستحيل ولا من نسج الخيال؛ إنما هو أمر ممكن إذا ما صدقت النوايا وصح العزم. إن التلفزيون المصري يحتاج إلى ثورة أخرى مثل هذه الثورة التي لا نزال نتنسم هواءها العليل، وبات تغيير السياسات في هذه المؤسسة مطلبًا قوميًا لا سيما بعد أن أضحت شاشته في ذيل اهتمامات المشاهد بفضل السياسات الفاشلة التي أدارت هذه الآلة الإعلامية حينًا من الدهر لم تكن فيه شيئًا مذكورًا. ولن يمكن إصلاح التلفزيون ما لم يتم تجديد دمائه، والتطهر من المحسوبية والانحيازية وأحادية الرأي وغيرها من الأدواء والعلل، مع إتاحة الفرصة كاملةً لكل الاتجاهات للتعبير عن نفسها وفكرها بشفافية كاملة، سواء اتفقت مع سياسات الحكومة أم لم تتفق، وإفساح الطريق أمام الشباب الواعي لاستيعابهم ومن ثم إعداد كوادر قادرة على تحمل المسئولية والقيام بأعبائها، وبالتالي نخلق مناخًا فاعلًا يُستمع فيه إلى الرأي والرأي الآخر دون انحياز. إن الأمل معقودٌ الآن على الإعلام لإصلاح ما أفسدته الأنظمة المتعاقبة، وما خلفته من مناخات غير صحية أدت إلى تهميش روح الانتماء والتكريس لقيم سلبية مثل (اللامسئولية)، (الانتهازية)، (الاتكالية) و(الانهزامية) وغيرها من المُخرَجَات التي تفُتُّ في عضد الأمة يومًا بعد يوم. وبإمكان (إعلام ما بعد الثورة) أن يُقدِّم الكثير في المرحلة المقبلة لبناء إنسانٍ مصريٍ محبٍّ لبلده، مؤمنٍ بقضيته، أمينٍ على مُقدِّرَات وطنه، يؤدي واجباته بإتقانٍ قبل أن يَطلب ما له من حقوق، ولعل إنسانًا بتلك المواصفات القياسية سيكون قادرًا على النهوض بهذه الدولة التي تمتلك كل المقومات المادية والبشرية للتقدم والازدهار. كاتب وإعلامي مصري [email protected]