أهم إنجاز للثورة الشعبية المصرية، يتمثل في إيقاظ الإرادة الشعبية، وتحريك القوة الشعبية الفاعلة. فالإرادة الشعبية هي التي صنعت الثورة، وهي التي أسقطت النظام الحاكم في مصر، وهي بالتالي القوة الأساسية التي يمكن أن تحفظ مكتسبات الثورة الشعبية، وتحمي التحول الديمقراطي. فالثورة الشعبية قامت ضد الاستبداد والفساد، ومن أجل مجتمع يتمتع بالحرية والعدل، فأصبح التحول الديمقراطي، هو الوسيلة الأساسية لمحاربة عودة الاستبداد والفساد. ولا يمكن إنجاز التحول الديمقراطي الصحيح من خلال التعديلات الدستورية والتشريعية فقط، ولا من خلال دستور جديد فقط، بل من خلال استمرار الإرادة الشعبية وفعلها المؤثر. فالضامن الحقيقي لعدم عودة الاستبداد مرة أخرى، لا يتمثل في إجراء تعديلات دستورية وتشريعية فقط، بل في استمرار قدرة الإرادة الشعبية على مواجهة أي محاولة لعودة الاستبداد والفساد مرة أخرى. لقد أنجزت الثورة أهم نتيجة لها، وهي تحرير الإرادة الشعبية، وأصبح من المهم الحفاظ على الإرادة الشعبية الحرة في المستقبل، لتظل إرادة المجتمع الحر، هي الوسيلة الأساسية لبناء نظام سياسي يقوم على الحرية والعدل والكرامة. لذا يصبح من المهم النظر في كيفية الحفاظ على فاعلية الإرادة الشعبية، بصورة تمنع أي حاكم أو نظام حكم من الانقلاب على إنجازات الثورة. وأيضا يصبح من المهم الحفاظ على الإرادة الشعبية الحرة، لتصبح هي الفاعل الأول في المعادلة السياسية المصرية. والكل يتكلم عن الدولة المدنية الديمقراطية، التي تحقق المواطنة والمساواة، والحرية والعدل والكرامة، وتلك الدولة المدنية، هي الدولة التي تقوم على الإرادة الشعبية الحرة، والتي تكون فيها الإرادة الشعبية هي مصدر الهوية والمرجعية للدولة والنظام السياسي، وتصبح الإرادة الشعبية الحرة هي التي تختار ممثلي الشعب وتختار الحاكم، وتحاسبهم وتعزلهم. وبدون إرادة شعبية حرة، يستمد منها النظام السياسي كل مكوناته، لن تقوم الدولة المدنية، بل سيعاد إنتاج دولة الاستبداد. والدولة الدينية التي يرفضها الجميع بما في ذلك التيار الإسلامي، هي الدولة المستبدة، سواء كانت مرجعيتها علمانية أم إسلامية، فالدولة العلمانية المستبدة، والتي تفرض العلمانية على المجتمع بدون أن تكون العلمانية اختيارا حرا من المجتمع، هي دولة دينية، أي دولة تفرض وصياتها على المجتمع، وتدعي لنفسها حقا مطلقا في الحكم، وتهدر اختيارات الإرادة الشعبية. ولا يمكن أن تقوم الدولة المدنية، بدون الإرادة الشعبية الحرة. فمدنية الدولة تنتج من كونها نابعة من الإرادة الحرة للناس، ومن كونها انعكاسا للإرادة الحرة للمجتمع. فالدولة التي تمثل انعكاسا لاختيارات المجتمع، وتعبر عن توافقه وإجماعه، أو تعبر عن أغلبيته، هي الدولة المدنية المنشودة. لذا يصبح من المهم تنظيم الإرادة الشعبية حتى تصبح فاعلة دائما، وليس أحيانا. والإرادة الشعبية الحرة غابت عن مصر، بسبب سياسات دولة يوليو، والتي هدمت كل تنظيمات المجتمع من أجل فرض سيطرة الدولة والنخبة الحاكمة على المجتمع. لقد عملت دولة يوليو على تحطيم التنظيمات الشعبية وحصارها، بصورة أدت إلى غياب التنظيمات الشعبية التي تنظم حركة الناس، وتفعل دورهم وتأثيرهم، وتعظم من دور الرأي العام، وتيسر تنظيم الاحتجاجات الشعبية بمختلف صورها. ومع غياب التنظيمات الشعبية، لم يجد المجتمع وسيلة للتعبير عن رأيه. لذلك جاءت الثورة الشعبية المصرية، بدون أطر تنظيمية ترتب لها وتحركها وتحدد قياداتها ومطالبها. لذا يصبح من المهم تقنين التنظيمات الشعبية بمختلف صورها، حتى يمكن تنظيم حركة المجتمع، وتنظيم الرأي العام، وتعظيم قدرة المجتمع على التعبير عن رأيه وتوجهاته، وفرض إرادته على النظم الحاكم في كل المراحل. وأهم مكون للتنظيمات الشعبية، ليس الأحزاب ولا الجمعيات الخيرية، بل أن أهم مكون لها هي التنظيمات الشعبية القائمة على العمل الجماعي، والتي تنظم الناس داخل أطر جماعية لتحقيق غايات بعينها. وتلك مسألة مهمة، فالمجتمع يحتاج أولا إلى الحركات الاجتماعية وجماعات الضغط، والتي تمثل أطر تنظيمية تقوم على العضوية، وتفعل العمل الجماعي، في مختلف الميادين. فالتنظيمات الشعبية يمكن أن تقوم على أساس مهني أو حرفي أو جغرافي أو فئوي أو ديني أو سياسي أو ثقافي أو عمري، وبالتالي تصبح إطارا للعمل الجماعي العام والخاص والنوعي، في مختلف مجالات الحياة، ومن تلك التنظيمات المختلفة والمتنوعة، تتشكل اتجاهات الرأي العام، وتتشكل بالتالي التيارات العامة في المجتمع، ومنها يتشكل التيار الأساسي أو السائد في المجتمع. وتصبح التنظيمات الشعبية هي الأطر التي تنظم العمل الجماعي، والتي ينتمي الفرد غالبا لأكثر من تنظيم منها، مما يجعلها وسيلة لتنظيم العمل الجماعي وتنظيم المجتمع، وأيضا وسيلة لتحقيق تماسك المجتمع وترابطه. ولقد كان الحق في التنظيم واحد من مبادئ دستور 1923، ولكن تم إلغاءه بعد قيام دولة يوليو، والتي ألغت كافة الأنشطة الحرة للمجتمع. لذا نتصور أن التنظيمات الشعبية سوف تكون البناء الأساسي الذي يقوي ويفعل الإرادة الشعبية، كما أنها سوف تكون البناء الأساسي الذي تقوم عليه الحركة السياسية وعمل الأحزاب السياسية، والتي سوف تستند لتلك التنظيمات الشعبية، وتصبح التنظيمات الشعبية ممثلة للقواعد الاجتماعية المختلفة، والتي تستند لها الأحزاب السياسية أو تتحالف معها، مما يجعل القواعد الاجتماعية التي تستند لها الأحزاب السياسية منظمة بصورة كافية لتنشيط عمل الأحزاب السياسية. كما أن تلك التنظيمات الشعبية، سوف تكون عنصر مهم في تنشيط عمل الجمعيات الخيرية، وسوف تقيم العديد من الجمعيات الأهلية، والتي تقوم بدور رئيس في تحسين الحياة للناس، ومعالجة الأمراض الاجتماعية والحياتية المختلفة. مما يجعلنا ننظر إلى التنظيمات الشعبية، بوصفها العمود الفقري للعمل الجماعي والمجتمعي. وهو ما كانت عليه الحال في مصر، وغيرها من الدول العربية والإسلامية في الماضي، حيث كانت المجتمعات العربية والإسلامية تتميز بوجود تنظيمات جماعية متعددة، مثل الطوائف الحرفية والمهنية وتجمعات التجار والعلماء وغيرها، وكانت هذه التنظيمات هي مصدر قوة المجتمعات، ومصدر فاعليتها. لذا يصبح من الضروري تنشيط وتنظيم الإرادة الشعبية التي تفجرت في الثورة المصرية، في إطار تنظيمات شعبية، تحفظ لها قوتها ونشاطها ودورها وتأثيرها، حتى تظل الإرادة الشعبية فاعلة، وتمنع عودة الاستبداد والفساد مرة أخرى، لنبني دولة يناير، بعد انهيار دولة يوليو.