يشفق المرء كثيراً هذه الأيام على النائب العام، وعلى كثير من الغيورين على ثروة الوطن والذين يتقدمون في اليوم الواحد بعشرات البلاغات للنائب العام ضد شخصيات أثريت ثراءً فاحشاً في المرحلة البائدة. قد تكون الأرقام التي كشفت عنها البلاغات المقدمة مرعبة للغاية، ونظراً لأن الفساد في المجتمع المصري شديد التشعب والتعقيد في قطاعات الدولة، وعلى مستوى مرتزقة قطاع المال والبيزنس، فإن المتوقع أن تكون قيمة خسائر عمليات الفساد في المجتمع المصري باهظة للغاية. ومعلوم أنه عندما ننادي بتعقب عمليات الفساد والثراء غير المشروع فإن هناك هدفين من هذا النداء الأول محاكمة الفاسد بما يستحق قانوناً وبما يحقق الردع في المجتمع، لكن الأهم من تلك المحاكمة هو استرجاع الوطن لكافة الأموال والممتلكات الطالحة التي حصل عليها هؤلاء بغير وجه حق، مضافاً إليها كافة الثروات التي ترتبت على الفساد الأول. فالأمر إذن بحاجة إلى منهجية واضحة لملاحقة الفساد وكل من تربح من المرحلة البائدة، مع وضع آليات مصادرة حق الوطن عند لصوص الوطن. وهذه المنهجية أسحب أنها قد لا تتم إلا بتوافر لجنة عليا تحدد مسارات فتح الملفات وأولوياتها، مع القدرة الفورية على مصادرة كل حق للدولة دون الدخول في صراعات قضائية قد تستهلك كثيراً من الوقت بما يسمح بهروب كثير من الأموال الفاسدة. وأمر هذه اللجنة ليس بالغريب فقد أنشأها الجيش المصري ممثلاً في مجلس قيادة الثورة في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952. وأحسب أن هناك جهتين الآن هما أكثر جهتين في مصر يمكنهما رسم خريطة شديدة الدقة لمسار الفساد المالي والاقتصادي في مصر وهما هيئة الرقابة الإدارية، والتي تعتبر محسوبة على الجيش المصري بحكم قيادتها العسكرية، وتبعية غالبية منسوبيها للقوات المسلحة، فضلاً عن الجهاز المركزي للمحاسبات، والذي يرأسه رجل يشهد له الجميع بالنزاهة والغيرة وكان يسبب أزمة فعلية بنزاهته وتقارير جهازه الدقيقة للفاسدين في الحقبة البائدة. فتلك الجهتان تشعبهما الرقابي يمتد لكل بقعة على أرض مصر، ومعظم البلاغات التي تقدم الآن للنائب العام تعتمد على تقارير سابقة لهما. تقارير كثير منها أجهض سابقاً تحت ضغوط ومراوغات سياسية أو تلاعبات قضائية يعلمها الجميع. لكن يبقى أن هناك آلاف الملفات والأسرار لدى هاتين الجهتين يحتاج تفعيلها إلى مناخ تحقيق واحتجاز وتجميد غير عادي يواكب الأحداث الراهنة المتلاحقة، لتكتمل الحلقة قانونياً عند السيد النائب العام ليكون أيضاً مناخ المحاكمة عاجل تتحقق مع السرعة في مصادرة وتحصيل الأموال ومستحقات الوطن، حتى لا تضطر الدولة لأن يتم أسرها في الوقت الراهن تحت وطأة القروض الدولية التي طالما عانيناً منها، وسنظل نعاني من تبعاتها لعقود قادمة نظراً لفوائدها واستحقاقات الدائنين على مصر. من هنا كان رجائي من المجلس العسكري المصري أن يصدر قراراً بتشكيل لجنة عليا لتعقب الفساد في مصر تضم ممثلين عن النيابة العامة، هيئة الرقابة الإدارية، الجهاز المركزي للمحاسبات، وأقترح أن يكون رئيس هذه اللجنة السيد جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، والذي يرشحه كثيرون لإدارة مثل هذا الملف. فكما أن الدستور استدعى تشكيل لجنة لإجراء التعديلات عليه برئاسة شخصية عامة تحظى باحترام الجميع، فإن المجتمع المصري بحاجة أيضاً لوجود لجنة مماثلة لتعقب الفساد وإرجاع المسروقات. وذلك حتى تكون هناك رؤية واضحة لتعقب الفساد في مصر، ونرى محاكمة الفاسدين وينعم المجتمع المصري، بكافة المسروقات وأرباحها والتي أخذت منه بغير حق وعلى كافة المستويات والأصعدة.