بإحراق وإتلاف محتويات المقر الرئيسي لحزب الوفد أعرق الأحزاب المصرية وأكثرها تأثيرا في الحياة السياسية قبل ثورة 1952 وبإطلاق الرصاص وإصابة العشرات نستطيع القول باطمئنان أن الحياة الحزبية المصرية الحالية وصلت إلى نهاية الطريق المسدود الذي رسمه لها السادات رحمه الله. وإننا أمام بداية جديدة مفعمة بالأمل الذي ينبثق من وسط الظلام. بطبعي أتفاءل عملا بالنصيحة النبوية ، ورغم ما يعتصرني من ألم وحزن على الحزب والرئيس السابق له والتاريخ والتجربة إلا أنني أصر على أننا سنبدأ كمصريين وخاصة التيارات الفاعلة والقوى الحية لننفض الركام الذي لم تخلفه أحداث الوفد الأخيرة ، بل الركام الذي أصاب الحياة السياسية والحزبية في مصر نتيجة غياب الإرادة الجازمة لدى النظام في إجراء إصلاحات دستورية وسياسية حقيقية تمنع الوصول إلى حافة الفوضى والانهيار أو انطلاق ثورة جديدة قد تختلف عن سابقتها قبل نصف قرن من الزمان. إنها أزمة النظام الذي لم يحترم الهدف السادس من أهداف حركة الجيش المباركة كما سمت نفسها عند انطلاقها وهو " إقامة حياة ديمقراطية سليمة" ونكص على عقبيه عندما واتته الفرص تلو الفرص في إطلاقها والظاهر إن الثقافة العسكرية لا تتواءم مع الثقافة الديمقراطية ، وهنا نستدعي الحالتين التركية والصهيونية مع الاختلاف بينهما ولكن الصهيونية أقرب إلى المفاهيم الديمقراطية فهي وإن كانت ديمقراطية عنصرية (إن صح التعبير) إلا أنها أقرب إلى المعايير الديمقراطية ، وهنا نستثني أسماء بعينها مثل "الجنرال ديجول" والفيلد مارشال "ايزنهاور". كان إيعاز بعض المستشارين القانونيين من القضاة مثل " سليمان حافظ " والفقيه الكبير " عبد الرزاق السنهوري " الذين نصحوا رجال الثورة بإنهاء الحياة الحزبية القديمة بعد تطهيرها وإلغاء العمل بدستور 1923 الليبرالي وعدم إعادة البرلمان إلى العمل وذلك بحجة إعادة هندسة المجتمع المصري لإعطاء فرص متكافئة أمام الفئات المهمشة والضعيفة مثل العمال والفلاحين والطبقة الوسطي فلم تجر أول انتخابات لمجلس الأمة إلا عام 1957 بعد أن تم إلغاء الأحزاب تماما والقضاء على خطر الإخوان والشيوعيين وإجراء الإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس والتغلب على العدوان الثلاثي في حملة مركزة لإضفاء شرعية جديدة على النظام الجديد وإكساب رجاله أو رجله الأوحد هالة بطولية ضخمة أنست الناس والشعب الحاجة إلى الديمقراطية. خلال هذه الفترة كانت الفرصة الأولى أمام النظام هي أزمة مارس 1954 وكانت المناورة التي أودت في النهاية بهيبة القضاء الإداري والاعتداء على الفقيه الدستوري السنهوري داخل مكتبه بمجلس الدولة ، ثم القضاء على الجناح الديمقراطي داخل مجلس قيادة الثورة فتم سجن محمد نجيب داخل قصر " زينب الوكيل " بالمرج طوال حياة عبد الناصر ، خالد محيي الدين إلى الخارج وإقصاء الضباط الموالين ومذبحة الإخوان المسلمين التي طالت عشرين عاما والأخرى للشيوعيين التي استمرت أقل من تسع سنوات. تخلص النظام من خصومه جميعا وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومع ذلك لم يخط خطوة واحدة في الطريق السليم نحو الديمقراطية. جاءته الفرصة الأخرى بعد الوحدة مع سوريا ، لكنه أصر على حل الأحزاب السورية أيضا في تكرار للتجربة المصرية ، ولكن التجربة انتهت بمرارة الانفصال ودخول سوريا في مأساة سيطرة حزب البعث وجناحه العسكري على الحكم فيها فأنهى عمليا الحياة الحزبية في سوريا كما انتهت في مصر. كانت فرصة النظام خلال الستينيات متاحة للتحول الديمقراطي : عقب الانفصال وبعد إقرار " ميثاق العمل الوطني " وبدء تجربة الاتحاد الاشتراكي وظهور عجز صيغة الحزب الواحد عن الأداء السياسي بعد تجربتين : هيئة التحرير والاتحاد القومي. كان المد القومي هائلا في الفترة من 1955 إلى 1967 وكانت شعبية عبد الناصر وزعامته طاغية ليس فقط في مصر بل في كل العالم العربي ، ومع ذلك لم يخض عبد الناصر انتخابات حرة لتثبيت شرعية حكمه عن طريق صناديق الانتخابات مرة واحدة في لغز يحير المراقبين والباحثين. جاءت الفرصة الأخيرة لعبد الناصر عقب الهزيمة النكراء والنكسة الكبرى عام 1967 ، وبالفعل حوت محاضر اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي حوارات حول ضرورة إفساح المجال للرأي الآخر واحترام التعددية في إطار الاتحاد الاشتراكي ، وجادل البعض أن عبد الناصر أقر بضرورة وحتمية التحول إلى ديمقراطية تناسب وضعنا المصري لكن الموضوع كله تأجل إلى ما بعد إزالة آثار العدوان وكان شعار المرحلة " لا صوت يعلو فوق صوت العركة ". مات عبد الناصر قبل أن يدرك حجم الخسارة التي لحقت بمصر بعد 18 عاما من الحكم العسكري ولم يكن يعرف أن كل الإنجازات التي حققها في غياب الديمقراطية ودون مشاركة شعبية حقيقية ولم تجد نفعا ديمقراطية الموافقة ، وضاعت خلال سنوات قليلة كل المكاسب التي حققتها الجماهير في غيبتها ، وكأنها كانت منحا من النظام وليست بجهود الشعب ، فعندما غير النظام بوصلته ذهبت أدراج الرياح ، ولم يستطع أنصار عبد الناصر الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين ، بل تحولت المكاسب التي لم تلغ إلى مكاسب وهمية مثل " التعليم المجاني " و" العلاج المجاني" ... الخ . ظن المصريون أن السادات سيقوم بالتحول الديمقراطي خاصة أنه بني خطابه السياسي على أهمية الحريات والديمقراطية وضرورة الانفتاح السياسي مع الانفتاح الاقتصادي. أعلن السادات عن قيام المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي ثم أعلن قيام الأحزاب قبل تعديل الدستور نفسه بل شارك بنفسه بعد ذلك في تأسيس حزب جديد معارض له هو حزب العمل بعد تحويل المنابر إلى 3 أحزاب وهي " مصر العربي " و " الأحرار الاشتراكيون " و " والتجمع الوطني " . عندما نجح الوفديون في إقامة حزب الوفد الجديد شن السادات عليه حربا شعواء واستصدر قوانين تحرم كبار الوفديين من العمل السياسي مثل فؤاد سراج الدين وعبد الفتاح حسني رحمهما الله. كانت هذه كلها قرائن على عدم جدية السادات أو اقتناعه بالديمقراطية. لقد أنشأ نظاما أن صح الوصف ديمقراطيا مشوها. وكان واضحا أنه أراد شكلا ديمقراطيا دون جوهر حقيقي. لم يبدأ بالتعديلات الدستورية المطلوبة ، والتي لم تحقق حتى الآن بل أعلن بحركة مسرحية في خطاب بمجلس الشعب قيام المنابر ثم الأحزاب ولم يصبر على التجربة حتى تنضج بل أعلن عن قيام " الحزب الوطني الديمقراطي " الذي ترأسه بنفسه بعد أن ظل بعيدا عن الأحزاب ، وقد هرول كل أعضاء حزب مصر إليه مما دلل على عدم الجدية في العمل الحزبي. وكان عداؤه الشديد للوفد العائد بقوة دليل إضافي على عدم الجدية لأن السماح للوفد وإتاحة الفرصة له للعمل والنمو سيجعل للديمقراطية طعما جديدا وسيحولها إلى حقيقة علي الأرض و فسيكون هناك حزبان يتنافسان ولكنه أجهض تجربة الوفد مما جعل الوفديين يجمدون الحزب بعد شهور ولم يعودا إلى العمل إلا بعد اغتيال السادات وخروج سراج الدين وعبد الفتاح حسني من السجن. كان المطلوب هو الشكل وليس الجوهر. وذلك استمر العمل بالصورة الشكلية في عهد مبارك ، بل ازداد الأمر سؤا فقد ازداد عدد الأحزاب دون أي إضافة حقيقة حتى بعد التراخيص للناصريين بالعمل عام 1992. وتم حجب القوي الحية الفاعلة مثل " الإخوان المسلمين " حتى الآن وأزداد سياسة حجب القوى الأخرى التي نشأت خلال العقد الأخير مثل " حزب الوسط " الذي عاد من جديد إلى المربع رقم واحد بقرار المحكمة الأحزاب بفتح بابا المرافعة من جديد وتأجيل قضايا حزب الكرامة والشباب الناصري وعندما تم السماح لحزب الغد " شباب الليبراليين " كانت المفاجأة التي حققها في انتخابات الرئاسة مبررا كافيا لتحطيمه وزرع الشقاق داخله وسجن زعيمه الشاب " أيمن نور " تم حصار الأحزاب المرخص لها داخل مقارها ومنعها من الاتصال بالجماهير وزرع الشقاقات والخلافات داخلها وتجميد النشيط منها وإدخالها في منازعات قضائية لا تنتهي ، كما تم تجبيه الأحزاب ضد بعضها والدخول معها في حوارت غير منتجه وليس لها ثمرة بل تأتي بعكس مطالب الأحزاب في حالة عناد مستمرة. الآن وصلنا إلى نهاية المطاف مع الفترة الخامسة والأخيرة للرئيس مبارك فقد أيقن الجميع أن هذه التعددية السياسية والحزبية الشكلية والمقيدة والتي تم تسويقها للغرب فقط ولم يقتنع بها المواطن المصري في أي لحظة من اللحظات لأنها تفتقد أهم قواعد التعديدية ألا وهي " إمكانية تداول السلطة " وهذه الإمكانية وفقط هي التي تحفز القوي السياسية للمشاركة وإعداد الخطط البديلة والتهيؤ لاستلام الحكم بطريقة سليمة وديمقراطية عبر صناديق الانتخاب. هل يطلق الرئيس مبارك رصاصة الرحمة علي هذا الواضع البائس الذي يعيش حالة موت أكليني منذ سنوات ؟ هل ينطلق الوطن في عملية إصلاح شامل " أو عمرة تامة للوضع السياسي والدستوري ؟ هل يتخلى الشعب عن سلبيته وينضم إلى القوى الحية إذا نجحت في إقناعه بالعمل والتضحية وتكون تلك القوى هي القدوة في التضحية وتعالج الصورة السلبية التي أحدثتها الأحداث الداخلية في الأحزاب الكبرى وكان أخرها ما حدث في حزب الوفد بين أحداث مؤسفة ومحزنة. إن ما حدث في الوفد لا يمكن تبرئه النظام منه ، فهو المتسبب فيه بالمباشرة أو عن طريق غير مباشر أما عمدا أو خطأ فهو المدان وعليه أن يدفع الثمن الجريمة. والثمن هو الإصلاح الشامل والخروج من النفق المظلم. نقلت جريدة " المصري اليوم " عدد الثلاثاء 5 / 4 بالصفحة الأولي عني ملخصا لما دار في ندوة مركز الدراسات الاشتراكية بأمانة ، بينما حرفت جريدة " روز اليوسف " اليومية 5 / 4 ما جاء على لساني بالصفحة الأولي . واختلقت ما لم أقله في دأبها على تشويه الإخوان المسلمين ، والقارئ اللبيب سيدرك الفرق بين احترام المهنة والقارئ بين المنتسبين زورا إلي مهنة شريفة.